بعد نيّف وأقلّ من 4 سنوات خلت تبيّن أن سوء التقدير والسطحية في فهم الأمور، أو أن العنجهية المرتفعة المنسوب إلى حدّ العمى الاستراتيجي هو الذي كان حاكماً لرئيس الولايات المتحدة الأميركية ترامب ودفعه إلى الانسحاب من الاتفاق النووي الدولي مع إيران وإعادة حزمة التدابير الكيدية التي أسماها عقوبات عليها، تلك التدابير التي فعلت حتى بلغت ما أطلق عليه «الضغوط القصوى» التي تطورت إلى فرض حصار دولي عليها فرض بإرادة أميركية منفردة معاكسة للقرارات الدولية الصادرة عن مجلس الأمن إثر المصادقة على اتفاق 5+1 مع إيران.

عندما مارس ترامب فعل لحس التوقيع الأميركي عن الاتفاق النووي ذاك ظنّ أن إيران المنخرطة مع مكونات من محور المقاومة في أكثر من جبهة دفاعية بوجه الإرهاب وقوى العدوان الخليجي الغربي بقيادة أميركية، ظن أن إيران هذه لن تقوى على الردّ، وستأتي صاغرة إلى مفاوضات جديدة تفضي إلى هدم برنامجها النووي وإلى تقييد برنامجها الصاروخي وإلى سدّ أبواب الإقليم لمنعها من العمل في الفضاء الحيوي الاستراتيجي الذي تؤهّلها له جغرافيتها السياسية بكلّ وضوح.

لكن إيران خيّبت الظنّ الأميركي، وبدل الاستسلام المذل كان الصمود والمواجهة والتحدي واجتراح الحلول باعتماد استراتيجية البدائل والصبر الاستراتيجي المقرون بالفعل المؤثر رداً على الانقلاب الأميركي، واستمرت إيران في المواجهة والدفاع واستهلكت مدة ولاية ترامب من دون أن يحظى الأخير بجائزة الوصول إلى اتفاق نووي جديد يعالج هواجس «إسرائيل» والغرب ودول عربية في الخليج.

ومع بايدن الرئيس الأميركي الجديد فتح الملف مجدداً، وكانت مباحثات فيينا التي توقفت بعد بضعة اجتماعات عقدت مع إيران بصيغة 4+1+1 ولم تحظ أميركا بشرف التفاوض المباشر مع إيران التي اشترطت عودة أميركا للاتفاق والعودة عن كل التدابير التي اتخذها ترامب بحقها قبل البحث بأي تعديل للاتفاق أو التفاوض حول تعديله، لكن الأميركي وعلى عادته مارس المناورة والاحتيال مؤملاً النفس بتراجع إيراني وأيضاً كان الظن الأميركي خائباً. فهل يتعظ الأميركي ويقلع عن مناوراته هو ومن بيده قرارهم؟

من ينظر في واقع الحال يقف على فئتين متناقضتين من الوقائع والسلوكيات الأميركية، فمن جهة تروّج أميركا لفكرة جاهزيتها للعودة إلى الاتفاق دونما تعديل وأنها فقط تناور بعض الشيء من أجل استيعاب الرافضين لهذه العودة بخاصة «إسرائيل»، وهي ترسل عبر الوسطاء ما يوحي بذلك، ومن جهة أخرى تناور سياسياً وميدانياً للضغط على إيران للقبول بما تريد، ولم تكن مسألة التحرك الإرهابي الداعشي أو الانتشار الأمني العسكري الصهيوني في أذربيجان لتهديد الأمن والاستقرار في إيران أو إشغالها عن ملفاتها الإقليمية إلا وجهاً من هذه الضغوط.

في مواجهة ذلك نرى أن إيران أتقنت سياسة المواجهة الدفاعية ورفعت مستوى التحدي وحققت عبر ذلك كمّاً كافياً من الاقتدار الذي يمكنها من رفض الضغوط الأميركية وإجهاضها سواء كانت استراتيجية أو سياسية أو اقتصادية أو عسكرية أو أمنية واقتداراً يحقق لها الطمأنينة إلى أنها ستصل إلى ما تريد وتمنع أميركا ومعها «إسرائيل» وسواها في فرض ما تريد. من هنا نفهم ما قامت به إيران لتؤكد هذا الاقتدار المجدي بخاصة في قيامها:

ـ التخفف من التقيّد بمعظم الالتزامات الطوعية في إطار البرنامج النووي السلمي الذي تمتلك، وهي وضعت سقفاً لعملها أخرجت منه مسألة صنع القنبلة النووية، لأنها في معتقدها الديني المعتدّ لديها وتلتزم الدولة به، تحرم صنع وامتلاك واستعمال السلاح النووي. ومن دون ذلك تعتبر إيران أنها تمارس في المجال النووي حقاً سيادياً مشروعاً للاستثمار النووي في المجالات غير العسكرية،

ـ تابعت إيران دعمها للقوى والكيانات التي تخوض الحرب الدفاعية عن نفسها بوجه الإرهاب والاحتلال الأجنبي، وعلى رغم كلّ ما قيل حول هذا ربطاً بالملف النووي فإنّ إيران رفضت التشريك والتشبيك بين الملفات وأصرّت على الفصل بينها، من هنا نفهم استمرار الدعم الإيراني للقوى التي تواجه العدوان والإرهاب في كلّ من سورية والعراق واليمن، فضلاً عن المقاومة ضدّ العدو الصهيوني في فلسطين المحتلة ولبنان، دعم بشتى الأشكال.

ـ نجحت إيران في سياسة التحدي وكسر الحصار بشكل لافت وعقدت الاتفاقات الاقتصادية والاستراتيجية الكبرى مع الصبن وتحدّت أميركا في عقر دارها عندما أرسلت بواخر النفط الإيراني إلى فنزويلا ثم كانت بواخر المحروقات التي أرسلت إلى لبنان لكسر الحصار الذي تفرضه أميركا. طبعاً هذا يضاف إلى ما نجحت فيه إيران من تطوير اقتصادها الإنتاجي استجابة لنظرية «الاقتصاد المقاوم».

ـ أما النجاح الاستراتيجي الكبير فقد تمثل في انضمام إيران إلى منظمة شنغهاي التي ينضوي فيها دول تمثل أكثر من نصف سكان العالم.

وبعضويتها التامة في هذه المنظومة مضافاً إلى ما ذكرنا أعلاه فإنّ إيران لا تجد موجباً للسعي أو لأن تلهث مستجدية أميركا في الملف النووي أو سواه، وهي أيضاً لن تكون في موقع من يرضخ للضغوط مهما كانت طبيعتها، لا بل أنها في مسار دفاعها عن حقوقها وعن حلفائها تعمد وبذكاء كلي منطق الهجوم في معرض الدفاع وتحقق الإنجازات التي تراكم قدراتها بشكل يغيظ الخصم والعدو ويريح الحليف والصديق.

وعلى هذا الأساس نرى أن العودة إلى الاتفاق النووي كما هو وكما هو شرط إيران باتت ممكنة الآن عودة تتحقق من دون أيّ مكسب تريد أميركا الحصول عليه، أما التهديد الأمني والعسكري والإرهابي الذي يلوّح به انطلاقاً من أراضي أذربيجان أو كردستان العراق أو لاحقاً أفغانستان فإنّ الردّ الإيراني عليه لن يكون محصوراً بالسياسة والدبلوماسية وما مناورات “فاتحو خيبر” التي نفذتها القوى المسلحة الإيرانية على حدود أذربيجان إلا أول الرسائل التي على أميركا و ش”إسرائيل” فهمها بأنها أول الغيث.

وفي المحصلة نقول إن هزائم أميركا في غرب آسيا ووسطها من سورية إلى اليمن والعراق وصولاً إلى أفغانستان ستضاف إليها هزيمة جديدة تحيك نسيجها اليد الإيرانية بأحرف الاتفاق النووي الدولي، الذي ستضطر أميركا إلى إحياء توقيعها عليه ولحس كلّ التدابير الكيدية التي اتخذتها بحق إيران من دون أن يكون من إيران تنازل واحد عن حق تراه لنفسها