من غير الجائز اليوم ان "يتفرمل"عمل الحكومة لأيّ سبب كان وترك البلد والناس لمصيرها "الأسود"؛ والمطلوب منها الكثير للتخفيف من وطأة الأزمة والمعاناة على كل الأصعدة، فهناك قوانين أعدت وأقرت وأخذت وقتها من الدرس والتمحيص، ولا ينقص سوى وضعها حيز التنفيذ مثل قانون الشراء العام وهو على قدر كبير من الاهمية، وهو مطلب داخلي وخارجي يضعه المجتمع الدولي كبند اصلاحي ثالت.

يتفق الجميع أن الشراء العام كان سابقًا غير واضح، لا ينسجم مع المعايير الدولية وغير شفاف، يبقي على المحاباة وأبواب الهدر، فلا يؤمن السلعة الاكثر جودة بأوفر سعر على الخزينة، وبالتالي على المواطن.

في هذا السياق، وبعد اجراء مسحٍ لمعهد باسل فليحان لمعرفة ترتيب لبنان في الشراء العام، كانت النتيجة أصفار ليس فقط من حيث الإطار القانوني بل أيضا المؤسساتي. وقد لاحظ المسح أنّ الأحكام اللبنانية بمجملها لا تعتمد معايير واضحة تعكس التوجّهات الدوليّة لجهة فتح مجال المنافسة أمام المؤسسات الصغيرة والمتوسطة، وتحقيق أهداف التنمية المستدامة خُصوصاً البيئيّة، واحترام معايير النزاهة والشفافية من قِبل الجهة الشارية ومن قِبل القطاع الخاص، والزاميّة وجود جهاز بشري متخصّص قادر على ممارسة وظيفته بأعلى مستويات من المهنيّة والفعاليّة والنزاهة.

فمن المعروف أن الحكومات هي الشاري الأكبر في السوق. تلجأ إلى تلبية احتياجاتها من الأشغال واللوازم والخدمات، عن طريق صفقات تعقدها مع الموردين، وهي بذلك تنفق أموال المكلفين أو تعتمد على الهبات أو القروض.

في دول العالم، يصل حجم الشراء إلى 25 و30% من الانفاق العام. أما في لبنان، فيشكل 20% من النفقات العامة على المستوى المركزي، أي ما يوازي 34 مليار د.أ. ودون احتساب ما تُنفقه البلديّات واتحاداتها والمؤسسات العامة والمصالح المُستقلّة والهيئات (بحسب تقديرات معهد باسل فليحان لفترة 2010-2020).

نحنُ إذاً أمام سوق كبير وفِرصٍ للأعمال يُمكن أن تكون إما مُتاحة للبعض، أو للجميع، بحَسَب تنافُسيّة قواعد الشراء وشفافيّتها. فإلى أيّ مدى هذه القواعِد هي فِعليّا أبواب مَفتُوحَةٍ للتنافُسيّة والشفافية والمُساءلة؟.

حين جاءت النتيجة سلبية، بدأ العمل على قانون جديد حديث للشراء العام يتماشى مع المعايير الدولية أنجزه فريق المعهد المالي، وأشرف عليه خبراء من لبنانيين وأجانب وراجعته اللجنة النيابيّة برئاسة الوزير السابق ياسين جابر فولد القانون 224/2021 تاريخ 19 تموز 2021.

واهمية إصلاح الشراء العام خصوصا إذا ما جاء مُتوافِقاً مَع المعايير الدوليّة، يُمكن أن يكون فرصة لتحقيق وفر سنوي بقيمة 800 مليون دولار على الأقلّ، وتَخطيط أفضل للإنفاق العام، لأن كل قرش يُنفق في غير محمكانهلّه هو ناقص في مكان آخر، وهو فرصة ضائعة في ظلّ وضع اقتصادي متردّي وحرج. فهامش الانفاق الاستثماري للدولة على المشاريع التنموية الحيويّة ضيّق جداً، ولا يَتَعدّى 2% فقط من الموازنة العامة (لعام 2020)، وهو يتقلص أكثر فأكثر مما يؤثر سلباً على تنافسيّة الاقتصاد وتصنيفات لبنان الدولية.

هذا وينظّم القانون عمليات الشراء العام على أساس لامركزي مع هيئة مركزيّة ناظمة تدير المنصّة الالكترونيّة المركزيّة وتتدخل بفعّالية لمنع الفساد والتواطؤ.

مديرة معهد باسل فليحان الاقتصادي والمالي لميا المبيض وفي حديث لـ"النشرة" أوضحت: "استطعنا مع جهد اللجنة النيابية برئاسة النائب ياسين جابر وعضوية اشخاص من كل الكتل النيابية شاركوا في تحسين اقرار القانون ونحن اليوم امام تحدّي تطبيقه، وهذه الحكومة تضعه ضمن اولوياتها". وكشفت أنّ وزير المالية داعم للقانون وكذلك رئيس الحكومة. اذن يمكن وضع هذه الخطة التطبيقية موضع التنفيذ بأسرع وقت.

تجدر الاشارة الى انه وبحسب معهد باسل فليحان، لا بُد من التشديد على أنّ إصلاح منظومة الشراء العام لا يكفي وحده، بل هو وثيق الارتباط بإصلاح مجموعة القوانين الماليّة، ومنها قانون المحاسبة العموميّة وقانون جديد للموازنة ،وهذه مسؤولية وزارة الماليّة. هو مرتبط أيضا بدراسة ووضع خيارات مؤسساتية جديدة تحتّم إدخال تعديلات على مجموعة من القوانين ذات الصلة، منها قانون تنظيم التفتيش المركزي وإدارة المناقصات (هيئة ناظمة) وقانون تنظيم ديوان المحاسبة وقانون الموجبات والعقود وقانون العقوبات وغيرها.