يقول القدّيس بولس الرسول الى أهل كورنثوس: "إن كان لكم ربواتٌ من المرشدين في المسيح لكن ليس آباءٌ كثيرون لأنيّ أنا ولَدْتُكُم في المسيحِ يسوعَ بالإنجيل(1كورنثوس 4: 15).

وفي موقع آخر يقول الرسول بولس إلى تلميذه تيموثاوس: "كُن قُدوةً للمؤمنين... اعكفْ على القراءة والوعظ والتعليم... لاحظ نفسك والتعليم"(1 تيمو 4: 12، 13، 16).

عليه يستند القدّيس يوحنّا الذهبيّ الفم في حديثه عن الكاهن، ويعتبر أنّه يتمتّع بخدمةٍ تفوق خدمة الملائكة القدّيسين. هذا يعود ليس إلى استحقاق الكاهن الشخصيّ بل إلى النعمة الإلهيّة "التي في كلّ حين للمرضىَ تَشفي وللناقصين تُكمّل". الكنيسة بذلك تصبح مستشفى فيها يُبَشَّرُ بإنجيل الملكوت، ويرعى فيها الأسقف (أو الكاهن) شعبَ الله كمرشدٍ روحيّ وكطبيب للنفوس، عن طريق سرّ التوبة والاِعترافِ والإرشادِ النفسيّ والرّوحيّ. فالكاهن ليس مدير مؤسسة أو منظّر، إنما هو راعٍ وناظر لرعيته، فالرعاية الصالحة تأتي بإدارة سليمة.

موضوع أن تكون كاهنًا ليس أمرًا عاديًا، أن يصغي الكاهن إلى الصلاة التي تتلى على رأسه يوم سيامته، والنازلة عليه من فوق، بوضع يد الأسقف، كفيلة بحمل هذه الدينونة طوال حياته، ليسلّم الوديعة سالمة إلى الرب يوم انتقاله إلى خدره السماوي. لذا يُغطّى وجهُ الكاهن عند وفاته بالستر نفسه الذي يوضع على القرابين، لأنه يصبح هو الذبيحة المقدّمة إلى الله.

النعمة الإلهيّة المعطاة إلى الكاهن، تجعله طبيبًا روحيًا في خدمة أبناء الكنيسة. فيبادر إلى جعل الكنيسة مشفًى روحيًا، يعالج فيها النفوس المتعثّرة والحزينة والمتألّمة والمظلومة، ويسكب في عقول وقلوب البشر الكلمة الإلهيّة، قولًا وفعلًا.

حياة الكاهن ليست إلا جهادًا روحيًا يقوم به يوميًا، فهو غاسل لأرجل أبناء الرعية وماسحًا لدموعهم ومطيّبًا لخاطرهم، هكذا أوصاني المطران جورج خضر في مثل هذا اليوم منذ ستّة عشرة سنة، يوم سيامتي كاهنًا، في عيد القدّيس يعقوب أخي الرّب. وأكثر من ذلك كان همّه أن آكل الكتاب المقدس وأعيشه. وبالأمس القريب سألته ماذا توصي كاهنًا مرّ على سيامته ستة عشرة سنة؟ جاء جوابه توًا أن يجعل الله فوقه في كل شيء ويموت عن رعيته. وأضاف الرعية لا تغفر وعليك بإحتمالها.

النجاح في رسالة الكهنوت، تكمن في عشقها، فالكاهن ليس موظّفًا يقتصر عملُه على إقامة الأسرار (القدّاس، المعموديّة، الإكليل، الجنازة…) روتينيًّا، بل يشمل أيضًا التعليم والإرشاد ورعاية النفوس. الكاهن راعٍ وأب. يسهر على رعيته ويتابع أمورهم اليوميّة، يفرح لفرحهم ويعزّيهم في أحزانهم ويشدد عزيمتهم في الملمّات. يسعى جاهدًا ليؤمّن لهم حاجاتهم اليومية، إذا وقعوا في ضيق أو شدّة أو مرض أم عوز. بعضهم قد يعتبر الكاهن صاحب سلطان أرضي، الأمر الذي يعثّر الكثيرين، ولذلك تتعثّر الخدمة في بعض الرعايا، سيّما إذا استغل الكاهن سلطانه على هذا النحو، في حين أن يسوع المسيح قد منح الكهنة سلطانًا روحيًا بقوله: "اَلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: كُلُّ مَا تَرْبِطُونَهُ عَلَى الأَرْضِ يَكُونُ مَرْبُوطًا فِي السَّمَاءِ، وَكُلُّ مَا تَحُلُّونَهُ عَلَى الأَرْضِ يَكُونُ مَحْلُولًا فِي السَّمَاءِ"(متى 18: 18).

قد يُفترى على الكاهن حينًا ويُظلم أحيانًا، وخاصّة على لسان أبناء رعيّته، وقد يُمتدح أحيانًا كثيرة أيضًا منهم، إنما ردّة فعله لا تكون بالغضب أو الإستعلاء. فإذا طالته ألسن غاشّة، فليلاحظ نفسه والتعليم، وعند امتداحه فليجيّر هذا المدح لمجد الله الذي سكب عليه نِعمه. وبذلك فقط يستطيع أن يطبّب النفوس الرخيصة والعقول المتحجّرة، وأن يكمّ أفواه المنافقين الذين يريدون شرًا له وبالكنيسة.

الكاهن يتحصّن بصلاة المؤمنين وأدعيتهم ومحبتهم له، ويتقوّى بمساندتهم له في خدمته، لذلك العمل البشاري لا ينمو ولا يثمر بالكاهن فقط، إنما من خلال إخوة وأخوات يتآزرون خيرًا في سبيل خلاص الأنفس بإمامة الكاهن.

لست في هذه الأسطر أرصف كلمات لمجرّد الكتابة، إنما لكي أذكّر نفسي، بعد مرور ستة عشرة سنة على سيامتي كاهنًا، بالأمانة التي حمّلتني إياها النعمة الإلهيّة في مثل هذا اليوم، ولكي أبقى أمينًا على الوديعة، ومجاهدًا في سبيل خدمة أبنائي على تنوّعهم. والخدمة أمرٌ مبارك، وهو القائل في إنجيله: "ما جئتُ لأُخدَمَ بل لأخدُمَ"(متى ٢٠: ٢٨). وأسعى إلى اكتساب فضائل كثيرة: كالتواضع والصبر والمحبة والتمييز بين الصح والغلط، وأعيش الرأفة الحقيقية، عندها فقط أكون خادمًا حقيقيًّا للمؤمنين، وأقدّم لهم الدواء الشافي من أجل توبة صادقة حقيقية، مسكوبة عليهم برحمة الله ومحبّته الواسعة.

فالرحمة المتّحدة بالمحبة تشفي كلّ مرض وضعف في الناس. وتستر عليهم زلّاتهم، وتقوّي إيمانهم وتثبّتهم في درب الرب.

فللكاهن الذي يحمل صفات النعمة الإلهيّة، دور في رعاية المظلومين والساقطين في الخطايا، فهو "من خلال التعليم والإرشاد الروحيّ يجعل من أبنائه، مُعتَقِين من الأهواء الضارّة والأمراض الناتجة عن الخطيئة". وفي هذه الحالة سيسأله الله، يوم وقوفه أمام عرش الدينونة، عن الأمور التي كان باستطاعته أن يفعلها، وقصّر في تنفيذها.

قال لي أحدهم مرة (يا أبونا ما بقا تصرّ على الناس يِجُوا على القدّاس، بكرا بيصيروا يتضايقو منّك)، فكّرت مرارًا وتكرارًا بما قاله هذا الأخ الطيّب، إلا أنني لم أتجاوب ونصيحته، لأنّه الأفضل بمكان ما أن يتضايق منّي الناس، من أن يُدينني الإله على تقصيري في الرعاية، والسعي لخلاص الأنفس. طبعًا غلاظة الناس يتحمّلها الكاهن بصبر وطول أناة، بما أمكن. أما الإفتراء والتجريح والإضطهاد والتعيير وكلمات السوء، من قبل النفوس الرخيصة، فطوبى للكاهن الذي يتحمّلها بقوّة. الدينونة العادلة ليست من النّاس بل من الله. الكاهن يذكّر نفسه يوميًّا بكلام الرّب "إِنْ كَانَ أَحَدٌ يَخْدِمُنِي فَلْيَتْبَعْنِي، وَحَيْثُ أَكُونُ أَنَا هُنَاكَ أَيْضًا يَكُونُ خَادِمِي. وَإِنْ كَانَ أَحَدٌ يَخْدِمُنِي يُكْرِمُهُ الآبُ"(يوحنّا 12: 26).