لم تنته الأزمة المستجدّة بين ​لبنان​ والخليج فصولاً بعد، بل هي مرجّحة إلى التفاقم أكثر في الأيام القليلة المقبلة، رغم كلّ الاتصالات والجهود التي يقودها رئيس الحكومة ​نجيب ميقاتي​، والتي يقابلها البعض في الداخل، بـ"التبشير" بخطوات خليجية جديدة سيتمّ كشف النقاب عنها، وسترفع سقف "التصعيد" إلى الحدّ الأقصى المُتاح، وربما ما يتخطّاه.

هكذا، بدا في الأيام القليلة الماضية أنّ الأزمة تدور "في حلقة مفرغة"، مع الحديث "الصريح" للمسؤولين الخليجيين عن أنّ الأزمة ناتجة عن تراكمات، وهي تتجاوز تصريحات وزير الإعلام جورج قرداحي الأخيرة، وأنّها مرتبطة بالدرجة الأولى بنفوذ "​حزب الله​" في الداخل اللبناني، وهيمنته على الحكومة والنظام وكلّ ما يمتّ إليهما بصلة.

في المقابل، باءت كلّ محاولات المسؤولين اللبنانيين لـ"احتواء" الأزمة بالفشل حتّى الآن، فرئيس الحكومة نجيب ميقاتي لم ينجح في لقاءات غلاسكو رفيعة المستوى على تحصيل أكثر من "وعد" قطري بإطلاق "وساطة"، عبر إيفاد وزير الخارجية قريبًا إلى بيروت، مقابل "غطاء" دوليّ مستمرّ حكومته، من جانب الولايات المتحدة وفرنسا.

لكن، هل يكفي هذا "الغطاء" لتأمين "الحصانة" التي تحتاج إليها الحكومة، التي تبدو "مهدَّدة"، في ظلّ دعوات متزايدة تُرصَد لاستقالتها، خصوصًا في ظلّ التباين حول "جدوى" التضحية بوزير الإعلام؟ وأبعد من ذلك، ماذا لو استقالت الحكومة عمليًا؟ أيّ "سيناريوهات" ستفتحها مثل هذه الاستقالة على لبنان، المقبل على انتخابات مفترضة في غضون أشهر قليلة؟

الأكيد، من حيث المبدأ، أنّ استقالة الحكومة، رغم كلّ الضجيج "المفتعَل" في بعض جوانبه، لا تزال مستبعَدة في معظم الأوساط السياسية، ولو أنّ هناك بين المحسوبين على السعودية والخليج في لبنان، من يضعها "شرطًا" لبدء "الحوار" حول إمكانية عودة العلاقات إلى سابق عهدها، أسوة بشروط أخرى، تبدو "تعجيزية" في جانب كبير منها، على غرار إصدار الحكومة موقفًا متقدّمًا ضدّ "حزب الله"، بل إعلان ما يشبه "الحرب" عليه.

لكن، في مقابل هذا الطرح، لا تزال "المرونة" هي السائدة بالنسبة إلى الفريق المحسوب على رئيس الحكومة، الذي لا يزال "يضغط" من أجل استقالة وزير الإعلام، وفق قاعدة "تغليب المصلحة الوطنية العليا"، وهو دعاه صراحةً ومباشرةً إلى اتخاذ "الموقف المناسب" أكثر من مرّة، كما يطالب القوى السياسية التي يتحصّن خلفها، ولا سيما "الثنائي الشيعي"، بمساعدته عبر إقناع قرداحي بذلك، بدل ثنيه عنها بعناوين "شعبوية خالصة"، وفق تصنيفه.

ومع أنّ ميقاتي يدرك، كما أغلبية اللبنانيين، أنّ الأزمة مع دول الخليج لم تعد مرتبطة بتصريحات قرداحي ولا بشخصه، ما يعني أنّ استقالته لن تحلّ المشكلة، علمًا أنّه كان جاهزًا لتقديمها لو حصل على "ضمانات" بجدواها، إلا أنّ رئيس الحكومة يصرّ على أهمية "رمزية" الخطوة، بوصفها ستشكّل "بادرة حسن نيّة"، من شأنها "تعبيد الطريق" أمام نقاش "عقلاني" في الحلول الممكنة للأزمة الحالية، بعيدًا عن "الجنون" الحاصل اليوم.

وبمُعزَلٍ عن استقالة قرداحي من عدمها، يؤكّد المحسوبون على ميقاتي أنّه مستمرّ في اتصالاته المكثّفة في محاولة لـ"احتواء" الأزمة، علمًا أنّ أمامه مروحة خيارات "ضيّقة"، وقد لا تكون شديدة الفعاليّة، أولها وربما أهمّها التعويل على الوساطة القطرية، معطوفة على موقف سلطنة عُمان، الذي كان لافتًا من حيث وسطيّته واعتداله، والذي يمكن أن يُبنى عليه لإطلاق "حوار" بين لبنان والسعودية، وقد أكّد ميقاتي جهوزيته له في أيّ لحظة.

أما الخيار الثاني، فيكمن في عقد جلسة للحكومة، تُطرَح فيها كلّ الأمور على الطاولة، إلا أنّ هذا الخيار، ولو كان مطروحًا، يبقى "إشكاليًا"، ومن المحاذير التي تحول دونه، موقف "الثنائي الشيعي" الذي قاطع اجتماع خلية الأزمة وأفشلها، فضلاً عن كونه لا يزال "عالقًا" في دوامة المحقق العدلي في جريمة تفجير مرفأ بيروت القاضي طارق البيطار، ورافضًا لأيّ اجتماع للحكومة قبل "بتّ مصيره" بصورة نهائية وواضحة.

يبقى خيار "الاستقالة"، وهو خيارٌ يقول العارفون إنّه يبقى واردًا ومطروحًا، ولو على طريقة "آخر الدواء الكيّ"، خصوصًا أنّ استمرار الأزمة على حالها، بل تفاقمها أكثر وفق ما هو مرجَّح، "يحرج" ميقاتي كثيرًا في بيئته، خصوصًا مع بدء "حفلة المزايدات" من قبل أصدقائه وخصومه على حدّ سواء، وهو ما برز جليًا في الأيام القليلة الماضية، مع تناوب الكثير من الشخصيات على "الذمّ" بالحكومة لإرضاء هذا أو ذاك في الخارج.

وإذا كان ميقاتي "مطمئنًا" على حكومته، في ضوء "الغطاء" الذي حصده في غلاسكو، ولا سيما من الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون ووزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن، فإنّ كثيرين يعتبرون أنّه في وضع "لا يُحسَد عليه"، فإذا لم يساعده شركاؤه في الحكومة، الذين عطّلوا مجلس الوزراء منذ ما قبل الأزمة، فقد لا يقوى على "الصمود" طويلاً، خصوصًا على أبواب انتخابات توصَف بـ"المفصلية"، وقد تتحكّم بالكثير من ردود الفعل اليوم.

لكن، هل تكون استقالة الحكومة هي فعلاً الحلّ؟ على الأرجح، مثل هذا الاستنتاج لا يمكن أن يكون دقيقًا، فالاستقالة وفق ما يرى العارفون من شأنها تعميق الأزمة وزيادة التعقيد على خطّها، فعلاقة دول الخليج، ولا سيما السعودية، بلبنان لم تكن أفضل بكثير في مرحلة "الفراغ الحكومي"، ولعلّ تجربة رئيس الحكومة السابق سعد الحريري وعجزه عن تأليف حكومة أراد "انتزاع" مباركة سعودية مسبقة عليها، خير دليل على ذلك.

لذلك، فإنّ استقالة الحكومة من شأنها أن تفتح أبواب "جهنّم" بالفعل على اللبنانيين في هذه المرحلة، فهي "تدفن" تلقائيًا أيّ فرصة للإنقاذ، الذي كان التعويل عليه كبيرًا في المرحلة السابقة، وفي الوقت نفسه، تضع الانتخابات النيابية المرتقبة، والتي يتعامل معها كثيرون على أنّها "مفتاح الحلّ" الفعلي للأزمات المتراكمة، في مهبّ الريح، ما يحقّق رغبة الساعين لـ"تطييرها"، وهم كثُر، ولو جاهروا بعكس ما يضمرون.

في النتيجة، لا تزال الأزمة مع الخليج مفتوحة على كل الاحتمالات والسيناريوهات. لا استقالة وزير الإعلام ستخفّف من وقعها، ولا استقالة الحكومة برمّتها ستنهيها، طالما أنّ المشكلة مع نفوذ "حزب الله"، الذي سيبقى بحكومة أو من دونها. وبالانتظار، أما الحوار فيبدو مرفوضًا، وتُشَنّ الحملات على كلّ مسؤول يدعو إليه، كما حصل مع وزير الخارجية، ليبقى التعويل على "وساطة قطرية" يقول كثيرون إنّها "رفع عتب" ليس إلا!.