يمرّ عيد الاستقلال هذا العالم في لبنان، على غرار السنتين الماضيتين اللتين مرّ بهما. يقول كثيرون ان لبنان لم ينعم حقاً بالمفهوم الكامل للاستقلال منذ سبعينات القرن الماضي، وهم على حق. فمنذ اندلاع الحروب العبثية على ارضه، شهد لبنان تدخل كل دول العالم في مصالحه وفي كل "شاردة وواردة"، ولم ينفع انتهاء الحرب بعد فترة طويلة، وبدء صفحة السلام كي تكف الدول عن تدخلاتها، لا بل زاد هذا التدخل واخذ اوجهاً عدة ساهمت في "صب الزيت على النار" فاشتعلت حرائق الطائفية والمذهبيةوالمصالح والهدر والفساد. في كل عام، كان لبنان يحتفل بذكرى استقلاله، ولكن فعلياً كان الجميعيدرك ان هذا الاستقلال ناقص بالمضمون، ولكنه قائم بالشكل فقط، الى ان عقدت الكوارث والمصائب اجتماعاً شاملاً وعاماً في لبنان تقرر على اثره ان يستقلّ لبنان عن الاستقلال.

في المفهوم العام لهذه الكلمة (اي الاستقلال)، يكون الشخص او الكيان او... مكتفياً ذاتياً،وله شخصيته الخاصة بمعزلعن ايتطورات اوتدخلات اوتبعات، ومن البديهي ان يكون مرتبطاً ببعض الاشخاص او الدول او نتائج احداث معيّنة، ولكن استقلاليته تبقى مصانة من خلال القرارات التي يتخذها من دون اي تأثير. للاسف، لا يبدو هذا التحديد سارياً في لبنان، فالتدخل الخارجي موجود منذ زمن، ولكن منذ سنتين، لم يعد لبنان قادراً على اتخاذ قرارات داخلية تؤثر على هويته ومسيرته وربما... بقائه. والواقع يفيد انه، بمعزل عن الاسباب، بات لبنان غير مستقل على كل الصعد: السياسية، الاقتصادية، المالية، الامنية، المعيشية والحياتية... فعلى الصعيد السياسي مثلاً، اصبح الخلاف سمة جميع الافرقاء اللبنانيين، وشهدنا عجزاً فعلياً في القدرة على تشكيل حكومة على مدى اكثر من عام ونصف العام، الى ان تم التدخل الخارجي ونجحت المساعي التسووية للوصول الى الحكومة الحالية التي ما لبثت ان تعطلت بعد اسابيع قليلة على ولادتها ونيلها الثقة، بفعل المعضلة حول المحقق العدلي طارق البيطار، ومسألة الكلام الصادر عن وزير الاعلام جورج قرداحي حول تدخل السعودية والامارات في اليمن. حصيلة هذه التطورات، هي ان لبنان ينتظر تدخلاً خارجياً يكفل عودة الحياة من جديد الى اجتماعات مجلس الوزراء.

مثال آخر يمكن اعطاؤه وهو يطال الانتخابات النيابية التي لا تزال تنتظر موعداً نهائياً لها، بعد الخلاف الحاصل بين مجلس النواب من جهة ورئاسة الجمهورية من جهة ثانية، وهو امر لا يمكن اغفاله او التغاضي عنه لسببين رئيسيين: الاول هو الرغبة الدولية في اجراء هذه الانتخابات مهما كلّف الامر، والثاني هو اهتمام رؤساء الاحزاب والمسؤولين في التيارات السياسية في معرفة القدرة على الابقاء على نفوذهم وتوسيعه قدر الامكان كي يضمنوا الابقاء على امساكهم ببعض المفاصل الرئيسية والاساسية في الحياة العامة اللبنانية. وما يصح على الحياة السياسية، يمكن تعميمه على الحياة الصحية والطبية والاقتصادية والمالية والامنية والمعيشية، وها هو لبنان ينتظر بفارغ الصبر شروط البنك الدولي وصندوق النقد كي يتنفس الصعداء ويحاول معاودة السير على طريق التعافي والانقاذ.

لم يعد هناك من طعم خاص للاستقلال في لبنان، حتى انه فقد طعم الاستقلال الشكلي الذي كان يحتفل به على مر السنوات في العقد الاخير من الزمن، ليبقى الجيش اللبناني وحده القاعدة الرئيسية والجامعة في هذه المناسبة، ويحافظ على شعاره الذي لطالما ردده وعمل في ظله، فيستضيف ما يمكن من مسؤولين ورؤساء احزاب وتيارات وشخصيات، ويجمعهم مع بعض ولو لفترة محدودة من الزمن، علّهم يحاولون استعادة بعض من روحية الاستقلال ومعانيه، قبل ان يستقل لبنان كلياً عن ذكرى وجوده.