نجح الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون في انتزاع نقاط ثمينة قبل موعد الانتخابات الرئاسية الفرنسية بعد حوالى 5 اشهر من الآن، في ظل واقع اقتصادي فرنسي صعب، وخسائر على مستوى السياسة الخارجية، بلغت ذروتها مع ملف الغواصات الاسترالية.

بدا جلياً انّ الرئيس الفرنسي حضّر جيداً لرحلته الخليجية، وأدرج لبنان كملف اساسي فيها، وهو الذي تلقّى النكسات المتلاحقة منذ اطلاق مبادرته بعد انفجار الرابع من آب، والذي طال مرفأ بيروت، خصوصاً انّ لبنان حاضر في الوجدان الفرنسي وله تأثيره على الشارع الفرنسي وبالتالي على الناخبين الفرنسيين.

وليس من المبالغة الاعتقاد، بأنّ تعويض الرئيس الاميركي جو بايدن على نظيره الفرنسي بعد «صفقة» الغواصات الاسترالية، ساهم بقوة في السماح لماكرون بالتقاط اوراق ثمينة خلال جولته الخليجية.

فصفقة بيع 80 طائرة حربية فرنسية من نوع «رافال» الى الإمارات والتي شكّلت ابرز العقود التي حصلت خلال رحلة ماكرون، ما كانت لتتمّ لولا موافقة ولو ضمنية لإدارة بايدن. وعدا انّ الادارة الاميركية أرست استراتيجيتها لمواجهة الصين من خلال التفاهم والتعاون مع اوروبا، وهو ما يستوجب اعادة ارساء تفاهم عميق مع فرنسا، العاصمة السياسية لأوروبا، فإنّ ادارة بايدن مهتمة ايضاً بمساعدة ماكرون في معركة التجديد الرئاسي له، لقطع الطريق على مرشحين متطرفين يمتلكون حظوظاً لا بأس بها، مثل مارين لوبان وإريك زيمور، ما سيعني عندها وصول «ترامب فرنسي» قادر على إثارة المتاعب بوجه ادارة بايدن.

لذلك حمل ماكرون في جعبته المحفزات المطلوبة، ورافقه فريق عريض لأكثر من 100 شركة فرنسية. المهمة الأصعب كانت في السعودية، لكن الرئيس الفرنسي كان يحمل بيده التطمينات المطلوبة.

فمنذ العام 2018، تاريخ مقتل عدنان الخاشقجي، لم يطأ ارض السعودية مسؤول غربي كبير، وازدادت المصاعب مع رحيل دونالد ترامب عن البيت الابيض ودخول رئيس ديموقراطي، عمل على تخفيض معدلات الحرارة في العلاقة مع السعودية وجعلها باردة تحت أعذار عدة وابرزها ملف الخاشقجي والحرب في اليمن. في وقت اندفعت فيه ادارة بايدن لإعادة إحياء العلاقة مع ايران.

وبعيد دخول جو بايدن رسمياً الى البيت الابيض، جرى تسريب تقرير استخباراتي الى الإعلام الاميركي حول ملف اغتيال الخاشقجي. ولاحقاً واجهت فرنسا ضغوطاً اميركية لخفض معدلات بيع الاسلحة الى السعودية بسبب الحرب في اليمن.

وصول ماكرون الى السعودية شكّل قدوم اول رئيس غربي الى السعودية منذ العام 2018. ولكن هذا لا يشكّل مطلباً كافياً للسعودية.

الحافز الاول الذي قدّمه ماكرون كان حول التوازن مع ايران. وصرّح ماكرون بوضوح، أنّه لا يمكن معالجة ملف ايران النووي من دون معالجة ملف استقرار المنطقة. وهو التزام فرنسي كأحد اطراف فريق التفاوض مع ايران، والذي يتمتع بعلاقات جيدة معها.

الحافز الثاني قيل انّه بإعادة طرح التزام فرنسا في إشراك حلفاء في المنطقة وعلى رأسهم السعودية، في محادثات اقليمية حول الملف النووي، وهي فكرة فرنسية كان سبق وطرحتها باريس، لكن جرى وضعها جانباً خشية التأثير سلباً على مسار المفاوضات مع ايران.

الحافز الثالث وهو الأهم، قد يكون بتقديم وعود حول العلاقة مع ادارة جو بايدن. فالرئيس الاميركي استمر في علاقته مع ولي العهد السعودي، ولكن من بعيد، ولم تنجح الاتصالات في تأمين لقاء بين بايدن ومحمد بن سلمان. وآخر هذه المحاولات حصلت قبل مؤتمر غلاسكو، وهو ما تزامن مع انفجار الأزمة السعودية مع لبنان. وتردّد يومها انّ واشنطن كانت تلحّ على القيادة السعودية لتقديم مساعدات عاجلة الى لبنان ومالية الى الجيش اللبناني الذي يعيش اوقاتاً صعبة وخطرة، لكن السعودية كانت تنتظر في المقابل تحديد موعد بين بايدن وبن سلمان، والذي لم يحصل. وهو ما دفع البعض للربط بين الأزمة مع لبنان وإبقاء ابواب بايدن موصدة، والتي أُضيف اليها ملف ارتفاع اسعار النفط ورفض السعودية التدخّل لمنع ذلك رغم ضرره على الوضع الداخلي لبايدن.

لذلك، هنالك من قرأ في الشق اللبناني من زيارة ماكرون الى السعودية اشارات ايجابية ولكن مع وقف التنفيذ، بانتظار امور جديدة يجب ان تتحقق، الأرجح أنّها تتعلق بالعلاقات السعودية - الاميركية.

الرئيس الفرنسي كان أجرى تمهيداً لزيارته مع الاميركيين. وتنقل اوساط ديبلوماسية معنية، بأنّه تسلّح بموقف يقول، بأنّ تجاهل السعودية لم يساهم في امكانية إيجاد حلول لأزمات المنطقة، التي تسعى الادارة الاميركية لترتيب اوضاعها. وانّه لا غنى عن موافقة السعودية لتأمين التوقيع على اتفاق سلام اقليمي مع ايران، وكذلك لا بدّ من الإفادة من المساعدة السعودية كحليف لمواجهة المتطرفين الاسلاميين في الشرق الاوسط.

وقبل سفره تشاور ماكرون مع الفاتيكان طالباً مساعدته، وضغط بقوة في لبنان لتحقيق استقالة الوزير جورج قرداحي، حيث وضع الورقة في جيبه لتأمين مدخل آمن لمبادرته حيال لبنان.

لكن اللافت ايضاً، انّ ولي العهد السعودي، الذي تحدث هاتفياً مع الرئيس ميقاتي للمرة الاولى بصفته الرسمية، لم يوافق على اقتراح ماكرون بزيارة ميقاتي الى السعودية.

وفي الوقت نفسه لم يحصل اتصال بالرئيس اللبناني العماد ميشال عون، الذي قال ماكرون انّه سيتصل به بعد مغادرته السعودية لوضعه في صورة محادثاته.

وإذا ما أضفنا البيان الفرنسي - السعودي المشترك العالي السقف، فهذا ما يؤكّد انّ الإيجابيات السعودية تجاه لبنان هي مع وقف التنفيذ، ومشروطة بمسائل قد يكون الرئيس الفرنسي وعد بتحقيقها.

وقد يكون الرئيس ميقاتي يستذكر الطريق الذي شقه الرئيس رفيق الحريري وهو يدخل حلبة السياسة اللبنانية.

في غلاسكو، لا بدّ ان تكون هذه الصورة قد راودته وسط لقاءاته مع زعماء العالم الذين اكّدوا على دعمه. مع الإشارة الى انّ ترؤسه للمرة الثالثة لحكومة لبنانية، ارتكز على مسألتين: الاولى تأمين طريقه ليكون رئيساً لأول حكومة في العهد المقبل، والثاني ان يشكّل حال إنقاذ اقتصادية تماماً كما شكّل دخول الحريري عام 1992.

أضف الى ذلك، انّ ماكرون يقترب من ان يكون الداعم الدولي الفعلي لميقاتي كما كان جاك شيراك يتولّى هذه المهمة مع رفيق الحريري، رغم وجود فوارق عديدة واساسية خصوصاً لناحية الظروف.

وعلى سبيل المثال، فإنّ الرهان على عودة انعقاد مجلس الوزراء بعد استقالة قرداحي والايجابيات السعودية، انما يبقى غير واقعي. فاستقالة قرداحي لم تحظَ برضى «حزب الله»، حتى ولو أنّه لم يعترض عليها حين جرت مصارحته قبل الإعلان عنها.

فمشكلة «حزب الله» هي مع ملف تحقيق المرفأ، وهو لذلك جمّد مشاركته في جلسات مجلس الوزراء. ولهذا السبب سيُبقي مشاركته معلّقة طالما بقيت الحلول غائبة على هذا الصعيد.

ولذلك أيضاً، ابلغ رئيس «تيار المردة» سليمان فرنجية مساعد امين عام «حزب الله» حسين خليل، أنّه لن يعمد الى تسمية اي بديل عن قرداحي في الحكومة في هذه المرحلة.

ما يعني انّه لن يحشر «حزب الله» اكثر ويضيّق هامشه قبل تسوية ملف التحقيق في انفجار مرفأ بيروت.