إحدى المشاكل الأساسية في عالم اليوم هي أنّ حياة الشعوب الحقيقية على الأرض في واد والحديث السياسي والإعلامي عنها في واد مختلف تماماً. بينما يحاول سكان الأرض على اختلاف ألسنتهم وألوانهم العيش بسلام وتحقيق الرفاهية لأولادهم وأحفادهم، والتمتّع بالصحة وراحة البال، نجد أنّ هناك طبقة سياسية في مكان ما نصّبت نفسها ولية أمر على البشرية، وكتبت لنفسها تفويضاً أن تقرّر هي وحدها من يتمتّع بنظم عيش مقبولة ومن عليه أن يغيّر نظم عيشه كي يرتقي إلى المرجعيّة التي صنعتها هذه الطبقة الطاغية بثرائها وسطوتها المخابراتية والعسكرية للعالَمين القريب والبعيد. ونلاحظ، وخاصّة مؤخّراً، أنّ الإعلام العالمي الذي تتحكّم به هذه الطبقة الفاسدة لا ينشغل أبداً إلّا بما توحي إليه هذه الطبقة، بينما تبقى القضايا الأخرى طيّ النسيان، حتى وإن كانت ذات أهمية كبرى لمعظم سكان هذا الكوكب. ونتيجة ذلك فإنّ معظم البشر منشغلون ليس بما يطوّر ويحسّن من أساليب عملهم ومستوى حياتهن، وإنما بصدّ أذى وحروب هذه الطبقة العدوانية عنهم، وإبطال مفعول العقوبات والأوبئة التي تستخدمها هذه الطبقة إن أمكن ودرء منابع الشرّ التي تنفلت عليهم من كلّ حدب وصوب ودون سابق إنذار في معظم الأحيان.

ولذلك نجد أنّ حياة البشر وأمنهم وسلامتهم ليست الشغل الشاغل لمنظومات الحكم المتحكّمة بمواقع القرار والأزرار النووية والميزات المخابراتية والعسكرية الضخمة والتي وصلت في الولايات المتحدة وحدها هذا العام إلى 776 مليار دولار؛ أي بزيادة 76 مليار دولار حتى عن العام الماضي مما يشي بتصعيد التوتّرات والحروب بدلاً من التركيز على مصادر الغذاء والمياه وحياة وصحة ورفاهية الإنسان. بل والأدهى من ذلك أنّ هذه القوى نفسها التي تخصّص كلّ هذه الميزانيات الضخمة للحروب تعكف ذاتها ليس فقط على فرض عقوبات أحادية ظالمة على الملايين من الشعوب المسالمة، ومنها الشعب العربي السوري، وإنما أيضاً تعمل على سرقة لقمة عيشه ومصادر طاقته، ودبّ الفتن بين أبنائه، وتكريس الميزانيات لتغيير طبيعته السياسية والديموغرافية خدمةً لمخططاتها العدوانية ومخططات المحتلين والمستوطنين في المنطقة المتأصلة بالنظام الاستعماري منذ قرون.

في الوقت الذي تحرم فيه هذه القوى الإنسان في بلدنا ومنطقتنا من لقمة العيش ومن إمكانية التواصل والتراحم بين أبنائه من خلال فرض عقوبات لا يعلم أحد مبرّرها، ولا يمكن إيجاد أيّ صفة شرعية أو قانونية لها، تبدي هذه القوى حرصها المفتعل "الإنساني" و"الديمقراطي" على سكان هونغ كونغ وتايوان ودونباس. والسؤال المنطقيّ هو ما هي المعايير التي تجعل هذه الطبقة الغاشمة تنتفض من أجل "حقّ"، كما تدّعي طبعاً، لسكان هونغ كونغ، ولكنها تمارس أبشع أنواع الظلم الجائر على حقوق شعب سورية مثلاً، والذي هو أصل الحضارات والطامح إلى العيش بأمن وسلام على أرضه، والذي استقبل عبر تاريخه كلّ شعب تعرّض للمجازر والقهر والظلم والعدوان.

من هذا المنطلق بالذات يجب أن نقرأ الخبرين الأساسيين الذين يشغلان نشرات الأخبار الأساسية في العالم اليوم، وهما خبر انتخاب المجلس التشريعي في هونغ كونغ والمؤلّف من 90 عضواً، وردّ الولايات المتحدة وجوقتها المعهودة؛ بريطانيا وكندا وأستراليا ونيوزيلاندا، على هذا الانتخاب من جهة، والخبر الثاني هو السجال الدائر بين روسيا الاتحادية من جهة وبين حلف الناتو العدواني من جهة أخرى حول أوكرانيا ومستقبلها وبالأخصّ مستقبل إقليم دونباس.

أما بالنسبة للخبر الأول، فنحن من جيل عايشنا إقليم هونغ كونغ قبل نهاية الحقبة الاستعمارية فيه بخروج المملكة المتحدة من هذا الإقليم وعودته إلى بلده الأمّ: الصين. ولم نكن نسمع أبداًبمجلس تشريعي أو انتخابات تشريعية في هذا الإقليم، بينما كان العالم كله يعرف اسم ومكانة "حاكم إقليم هونغ كونغ" البريطاني، وهذا هو لقبه الرسمي الذي كان معروفاً به في كلّ أنحاء العالم. أما وقد اتخذت الصين خطوات جادّة لتطوير النظام القضائي والتشريعي والسياسي كي تطبّق على الأرض نظامين في بلد واحد بما ينسجم ومعاييرها الديمقراطية، والتي أثبتت أنها حقّقت التطوّر والرفاه للشعب الصيني، ومكّنت الصين من تحقيق قفزة في مستوى حياة أبنائها خلال زمن قياسي أدهش العالم، ودفع الكثير من دول العالم لدراسة التجربة الصينية واستخلاص الدروس منها. فهل يمكن لعاقل أن يصدّق أنّ ما أسموه بـ "تحالف العيون الخمس" له أيّ علاقة بمصلحة ومستقبل أهل هونغ كونغ؟؟ بل هو تحالف يحاول أن يقوّض الخطوات التي تتخذها الصين، والتي تزيد شعبها نمواً واستقراراً وازدهاراً، وتزيد الصين قوّة ومنعة ومكانة بين الدول.

أما بالنسبة للمشكلة التي يدور حولها الكثير من اللغط في أوكرانيا، فأساس المسألة هو أنه وبعد الحرب الباردة تمّ تفكيك حلف وارسو بناءً على اتفاقيات مبرمة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي على أساس أن يتبع تفكيك حلف وارسو تفكيك مماثل لحلف الناتو بما أنّ القوتين العظميين آنذاك أعلنتا نهاية الحرب الباردة وأبرمتا سلاماً دائماً ووقف سباق التسلّح بحيث يتمّ تخصيص كلّ الموارد التي تنفق على الحلفين لتحسين مستوى عيش الشعوب وتحقيق رفاهيتها، وهذا هو العنوان الذي ردّده الرئيس غورباتشيف مراراً وتكراراً على مسامع زوّاره ومنهم الرئيس حافظ الأسد بعد أن اقنع الغرب غورباتشيف أن تفكيك حلف وارسو والاتحاد السوفياتي سينزل جنّة الخلد على كلّ قاطني الاتحاد السوفياتي، وسيكون غورباتشيف هو بطل النماء والرفاه الذي سوف يكتب اسمه التاريخ بأحرف من نور.

وها نحن اليوم بعد ثلاثين عاماً من ذلك التاريخ نجد أنّ الدول الغربية تخصّص الميزانيات العسكرية السخيّة من أجل تمدّد الناتو إلى الجوار القريب جداً من روسيا من أجل انتزاع بلدان كانت شريكاً روحياً واستراتيجياً لروسيا لضمّها إلى الناتو، وخلق حالة العداء بينها وبين روسيا بما يهدّد فعلاً أمن ومستقبل وسلامة الشعب الروسي. وكل الجدل القائم في الإعلام حول هذا الموضوع لا يعيد الأمور إلى نصابها الصحيح، ولا يحاول تفكيك المغالطات الأمريكية التاريخية، وعدم التزام أمريكا والدول الاستعمارية بالمعاهدات والمواثيق المبرمة وتدخّلهافي الشؤون الداخلية للدول، الأمر الذي أوصل العلاقات الدولية إلى ما هي عليه اليوم من توتّر وحروب وعقوبات ودمار وقتل وإرهاب.

في الموقف من سورية، وفي الموقف من الصين، وفي الموقف من روسيا لا تظهر الحقائق أبداً في تلافيف ادعاءات "الديمقراطية" و"حقوق الإنسان" التي يتقنون التحدّث عنها دون أن يكون لها أيّ مرتسمات في حساباتهم حول شعوبنا ومستقبل هذه الشعوب وطموحاتها وأساسيات عيشها ورفاهيتها، لذلك الأولى بتحالف "العيون الخمس" العدواني أن يلحظ الفقر والقهر وانعدام الصحة في البلدان التي يمثلها بدلاً من القفز من هونغ كونغ إلى تايوان إلى دونباس إلى سورية حيث تحتلّ أمريكا الرقّة والحسكة وشمال شرق سورية وتنهب ثرواتها وتقمع الشعب السوري بالإرهاب والعملاء؛ فهذه البلدان الحضارية العريقة أتقنت سبل عيش كريم ومحترم، ولذلك استمرّت مئات الآلاف من السنين قبل ولادة من أعطوا أنفسهم لقب "الديمقراطيين" الحريصين على "حقوق الإنسان"، والذين في الواقع يعملون على تفكيك الدول وبثّ الفتن فيها فقط للسيطرة على ثرواتها ونهب مقدّراتها، وليبقوا هم المتمكّنين من احتلالها وقهر شعوبها.

لقد سطعت شمس الحقيقة، واخترقت ضباب إعلامهم المسيّس، ولا يمكن لهم بعد اليوم أن يطفؤوا نور الله بأفواههم.