منذ أسابيع، تُرصَد "نبرة جديدة" لدى رئيس الجمهورية ​ميشال عون​، تبدو أقرب ما يكون إلى "الأدبيّات" التي اعتاد عليها اللبنانيون من "جنرال الرابية" في مرحلة ما قبل وصوله إلى قصر بعبدا، بعدما تخلّى عنها مع انطلاقة "العهد"، ليرتدي طوعيًا ثوب "بيّ الكلّ"، الشعار الذي ارتضاه يوم قرّر أن يكون رئيسًا لجميع اللبنانيين، من دون استثناء.

فمع أن عون حرص على تكريس مفهوم "الرئيس القوي" منذ وصوله إلى قصر بعبدا، وهو مبدأ قال مرارًا إنّه سيستمرّ بعده، إلا أنّ مسيرته الرئاسية اتسمت بالهدوء في الخطاب والمقاربات، رغم الخلافات التي شابتها مع معظم الفرقاء، لدرجة أنّه بات "شبه معزول" في نهاية "العهد"، بلا حلفاء باستثناء "​حزب الله​" الذي كان يخسره هو الآخر في الشهرين الماضيين.

لكنّ من يراقب عون في الأسبوعين الأخيرين يلاحظ "غضبًا" يتصاعد تدريجيًا، يصوَّب بشكل خاص باتجاه حاكم مصرف لبنان ​رياض سلامة​، على وقع معركة "​التدقيق الجنائي​"، الذي يصرّ رئيس الجمهورية على استكمالها والمضيّ بها حتى النهاية، شاكيًا ما يصفها بـ"مماطلة ومناورة" حاكم المصرف المركزي، وملوّحًا بـ"إجراءات" بحقّ الأخير "في الوقت المناسب".

ولعلّ الحديث الأخير المنسوب لعون في صحيفة "الجمهورية" ترجم هذا "الغضب الساطع" خير "ترجمة"، وقد بدا فيه كمن "تحرّر" من "إتيكيت" الرئاسة، وفق توصيف الصحيفة، فهل فعلاً يمكن القول إنّ عون خلع ثوب "بيّ الكلّ" في الجزء الأخير من ولايته الرئاسية؟ وما الذي يعنيه ذلك، وأيّ تبعات محتملة له على الصعيد العام، والبلاد مقبلة على استحقاقات مفصليّة؟

بمُعزَلٍ عن كلّ شيء، يبدو ثابتًا بالنسبة لكثيرين أنّ عون في حديثه الأخير لصحيفة "الجمهورية" لا يشبه عون في الأيام الخوالي، منذ خمس سنوات ونيّف، بل لا يشبه عون في آخر رسائله "المسجّلة" التي وجّهها إلى اللبنانيين عشية عيد الميلاد، وقيل وقتها إنّه سيقول "المستور" فيها، وسيسمّي الأشياء بمسمّياتها، فإذا بها تأتي أقلّ من سقف التوقعات والتقديرات.

ثمّة من يعتبر أنّ هذا الأمر لم يكن تفصيلاً، بل جزءًا من "التكتيك" الذي اختاره المحيطون برئيس الجمهورية منذ وصوله إلى بعبدا، عبر "تقليص" عدد الإطلالات المباشرة لصالح رسائل "مسجّلة" يمكن التحكّم بمضمونها، حفاظًا على "حيثية" موقع الرئاسة، ولو أنّ عون أراد منذ اليوم الأول تكريس فكرة أنّه يشكّل "الاستثناء" على خطّه، خلافًا لكلّ من سبقوه.

وإذا كان عون كرّس على امتداد سنوات "العهد" صورة "بيّ الكلّ"، فيما تولى الوزير السابق ​جبران باسيل​ مسؤولية "التصعيد والهجوم" متى تطلّب الأمر، فإنّ النتيجة لم تكن "على خاطر" الفريق "العونيّ" على ما يبدو، وقد وجد نفسه في السنة الأخيرة من الولاية الرئاسية، من دون أن يحقّق "الحدّ الأدنى" من طموحاته الشخصية، قبل الحديث عن طموحات الناس.

قد يكون هذا بالتحديد هو السبب الذي يدفع عون إلى التعامل مع قضية التدقيق الجنائي على أنّها قضية "حياة أو موت"، وليس خافيًا على أحد أنّه بات يعتبرها "معركته الشخصية"، لا في وجه رياض سلامة كحاكم للمصرف المركزي ومسؤول عن "الخطايا" المالية برأيه فحسب، ولكن في محاولة لـ"تبييض سجلّه وصفحته" في المقام الأول والدرجة الأولى.

بهذا المعنى، يمكن تفسير "المعركة" التي يخوضها عون في هذا الإطار من أكثر من زاوية، فهو أولاً يسعى إلى تحقيق "إنجاز ما" على خطّ التدقيق الجنائي، يستطيع "التسويق" له في ما بعد ضمن "إنجازات العهد" في وجه "الهجمة الشرسة" عليه، وبالتالي "التعويض" بصورة أو بأخرى عن "الإخفاقات" التي يُتَّهَم بها على أكثر من مستوى.

في الوقت نفسه، يريد عون أن "يبيّض صفحته" أمام الرأي العام، خصوصًا في ظلّ عمل بعض القوى السياسية على تحميله المسؤولية، ولا سيما من خلال "التجديد" لحاكم مصرف لبنان. وهو بهذا المعنى يسعى إلى تأكيد "رفع السقف"، وأنّه عمليًا وحده من "يواجه" رياض سلامة، فيما يدافع عنه الآخرون، ويسعون لـ"حمايته" بكلّ السبُل المُتاحة.

لكنّ هجوم عون الأخير لم يقتصر على سلامة، بل شمل أيضًا آخرين، بمن فيهم رئيس "الحزب التقدمي الاشتراكي" ​وليد جنبلاط​ الذي اتهمه بـ"المزاجية"، ملمحًا إلى أنّ المرء "يحتار مع أيّ وليد جنبلاط يتعامل"، ورئيس حزب "القوات اللبنانية" ​سمير جعجع​ الذي اتهمه بالغدر والتحريض، قافزًا فوق التفاهم الذي أبرمه معه شخصيًا قبل وصوله إلى الرئاسة.

يدفع هذا الأمر تحديدًا إلى الحديث عن "أبعاد" أخرى خلف خروج عون عن "دبلوماسيّته الرئاسية"، قد تكون "انتخابية" في جانب كبير منها، لا سيما لجهة "مساندة" الوزير السابق جبران باسيل في "معركته" التي لا يبدو أنّها ستكون "سهلة"، في ظلّ الظروف الحاليّة، وهو ما يفسّر مثلاً اقتصار الهجوم على "الخصوم المؤكَّدين" لباسيل انتخابيًا حتى الساعة، بمعزلٍ عن غيرهم من الخصوم، الذي قد يكونون "حلفاء محتمَلين".

وثمّة من يذهب أبعد من ذلك، لاعتبار أنّ الهجوم "العوني" المستجدّ يتجاوز ​الانتخابات النيابية​، ليطال في جانب منه الانتخابات الرئاسية المفترضة بعد تلك البرلمانية، خصوصًا أنّ عون الذي أكّد أنّه سيغادر قصر بعبدا مع نهاية ولايته، يحتفظ بـ"حقه" في التعبير عن آرائه في السياسة، وهو بذلك يحاول أن يفرض نفسه "لاعبًا أساسيًا" على خطّ تسمية الرئيس الذي "سيخلفه"، في ظلّ الكثير من التكهّنات والإشاعات على هذا المستوى.

في النتيجة، لا شكّ أنّ الانتخابات النيابية، متى تأكّد موعدها، ستفرض الكثير من "التعديلات" لا على موازين القوى فحسب، ولكن أيضًا على "التكتيكات والإستراتيجيات" المعتمدة. وقد يكون تخلّي رئيس الجمهورية عن شعار "بيّ الكل"، بالقول بعد الفعل، مجرد تفصيل في هذا السياق، خصوصًا أنّ هناك من يستعدّ لـ"استحضار" الكثير من الأسلحة "الانتخابية" التي قد تكون تداعياتها "ثقيلة" على أكثر من مستوى!.