بادر بعض الإخوة الشباب، الذين نلتقيهم في الإجتماعات الكنسيّة، إلى طرح مسألة الوضع المسيحيّ ومستقبله في هذه المنطقة. فجئتهم بجوابٍ من سطورٍ كتبها المطران جورج خضر في صحيفة النّهار يوم السّبت ٧ آب ١٩٩٣، ولا زالت بنظري سارية المفعول لتاريخه. يقول خضر: "المشكلة مع المسيحيّين أنّهم باتوا لا يعرفون سرّهم. فقد تزاوجوا هذا العالم. يخشون أن يصيروا القطيع الصغير. ويقول الإحصائيّون أنّهم، بعد قلّة من السّنين، إلى تضاؤل. إنّهم لا يعلمون أنّهم عندما كانوا اكثر عددًا، لم يكونوا أعظم فاعليّة، لأنّ جحافل الضّعفاء روحيًّا ليست بشيء. ولا يذكرون أنّ اثني عشر رجلاً منهم بلا سلاح، ولا بلاغة اقتحموا العالم، ونسوا أنّهم كانوا يتكاثرون خلال الثّلاثمئة سنة الأولى بسبب من الشّهادة، من حيث أنّ موتهم، والتّأثير الرّوحيّ المشعّ من هذا الموت كانا ينمّيان الكنيسة. المسيحيّون رأوا القوّة حيث لم تكن. وهم، حتّى الآن، ليسوا مقتنعين أنّ المسيح قلب الموازين لما قلب موائد الصّيارفة. إنّ العدد، والمال، والنفوذ وما اليها، ليست بديلاً لقوة الودعاء".

إذا شرّحنا ما كتبه خضر، نكتشف أنّ المسيحيّين لم يفهموا عمق رسالة المسيح ومضمون بشارته، ولم يفقهوا سرّه. غالبًا ما يراود ذهننا، عندما نسمع كلمة سرّ، مفهوم الغموض الذي لا يمكن إيضاحه، أو اللّغز الذي لا يمكن فهمه. إلاّ أنّ هذا لا يطابق مفهوم السّر بحسب الإيمان المسيحيّ. السّرّ المسيحيّ يختلف بالكلّيّة عن اللّغز. فعندما يتحدّث القدّيس بولس عن "السّرّ" في رسائله، لوجدنا أنّه لا يشير إلى واقع غامض، بل إلى مشروع الله الخلاصيّ. فحقيقة المسيحيّة هي أن الله أحبّ العالم حتّى إنّه بذل ابنه الوحيد، لكي لا يموت كل من يؤمن به، بل تكون له الحياة (يوحنا 3، 16)، وهذا بالضبط هو سرّهم. المسيحيّون، للأسف، لم يقاربوا هذا السّرّ العظيم، وباتوا ينشدون الكمّية وليس النّوعيّة. ولذا نسمع هنا وثمّة، أنّ أعدادنا إلى نقصان، وأنّ شريكنا في المنطقة يتخطّانا عددًا، ناسين أن حقيقتهم هي في الحبّ الذي يترجموه أفعال رحمة، لا في العدد الذي يبقى رقمًا. نسي المسيحيّون أنّهم لم يقاسوا يومًا بالعدد، إنّما بقوّة الإيمان، وإمتلائهم من نِعم الروح القدس، القادر أن يصيّرهم قدّيسين.

إذا قرأنا تاريخ إنتشار المسيحيّة في العالم، لوجدنا أنّ اعتناق هذه الدّيانة، جاء بفضل اثني عشر رسولًا، لم يملكوا مالًا أو سلاحًا أو قوّة، وحققوا بذلك إنجازًا باهرًا. وقد ورد في الإصحاح العاشر من إنجيل لوقا على لسان المسيح: "الحَصادُ كثيرٌ، ولكِنّ العُمّالَ قَليلونَ. فاَطلُبوا مِنْ رَبّ الحَصادِ أنْ يُرسِلَ عُمّالاً إلى حصادِهِ. اَذهَبوا، ها أنا أُرسِلُكُم مِثلَ الخِرافِ بَينَ الذِّئابِ. لا تَحمِلوا مِحفَظَةً، ولا كِيسًا، ولا حِذاءً، ولا تُسلّموا على أحَدٍ في الطّريقِ"(لوقا 10: 2-4).

حمّلهم رسالة سلام، ولذا قال لهم: وأيّ بَيتٍ دَخَلْتُم، فَقولوا أوّلاً: السّلامُ على هذا البَيتِ، فإنْ كانَ فيهِ مَنْ يُحبّ السّلامَ، فسلامُكُم يَحِلّ بِهِ، وإلاّ رجَعَ إلَيكُم(لوقا 10: 6-7).

المسيحيّون، في القرون الثّلاثة الأولى تكاثروا بقوّة، "بسبب من الشّهادة، من حيث أنّ موتهم، والتّأثير الرّوحيّ المشعّ من هذا الموت كانا ينمّيان الكنيسة". قوّة المسيحيّين الأوائل ترجموها بعمق الإيمان، والصّبر، والرّجاء وتعزية الكتب، رأوا القوّة حيث لم تكن. رأوها في المرضى، والجياع، والعطاش، والعراة والمسجونين، رأوها في المضّطَهدين، والمشرَّدين، والأرامل، والأيتام، والثكالى، والحزانى. قوّتهم ترجموها في الإيمان الراسخ بمخلّصهم، وفهموا أنّهم بالإيمان العميق يشترحون العجائب. فهموا أنّ الإيمان هو "الثِّقَةُ بِمَا يُرْجَى وَالإِيقَانُ بِأُمُورٍ لاَ تُرَى"(عبرانيين 11: 1). الإيمان كان عندهم نابعٌ من أن يكون الإنسان واثقًا من وجود الله، ومجازاته في الأبديّة للأبرار بحياة أبديّة يرجعوها، وخيرات أبديّة ينتظرها. لذلك قال المطران خضر يومًا، أنّ المسيحيّ "رجليه الأرض، ورأسه السّماء".

لقد خاطب الله بولس الرّسول في رسالته الثّانية إلى أهل كورنثوس قائلًا: "تَكْفِيكَ نِعْمَتِي، لأَنَّ قُوَّتِي فِي الضَّعْفِ تُكْمَلُ. فَبِكُلِّ سُرُورٍ أَفْتَخِرُ بِالْحَرِيِّ فِي ضَعَفَاتِي، لِكَيْ تَحِلَّ عَلَيَّ قُوَّةُ الْمَسِيح"(2 كورنثوس 12: 9). اللَّه هو الذي سمح له بالتّجربة، لكنّه مع التّجربة يعطيه نعمة لكي تسنده، ويتمجّد اللَّه في ضعفه، حيث تتجّلى قوّة المسيح فيه، ولا يقدر الأعداء أن يحطّموه. كلّما كانت التّجربة عنيفة، كلّما تجلّت بالأكثر قوّة المسيح وتمجّد اللَّه فيه. وبالتّالي، كلما ازدادت الصعاب والتّحدّيات، فعلينا أن نواجهها بتواضعنا. لقد وعد السّيد المسيح، بولس الرّسول، بأن يسكن فيه، ويهبه قوّته، ويعطيه نعمة وحقًّا. بهذا يشعر بالكفاية، ولا يعاني من أيّ عوزٍ. يهبه الحماية والكرامة والمجد. لم ينزع عنه التّجربة، ولا وعده بذلك، لكنّه وهبه نعمته التي تهبه راحةً، وحمايةً، ومجدًا. هذا ما يجب أن يشعر به كلُّ مسيحيّ.

المسيحيّة التي أرادها بولس الرّسول قائمة على هذه المستويات، وبهذا نستطيع أن نتقدّس بالإيمان وليس بالعدد. نتقدّس بالتّجارب وليس بالقوّة. نتقدّس بالأعمال وليس بالأقوال. المسيحيّون لم يفهموا مآرب الله في هذا العالم. وحتّى الآن، لم يقتنعوا أن المسيح قلب الموازين لمّا قلب موائد الصّيارفة، وكان وحده، من قد غلب العالم بوداعته، وليس بالعدد، أو المال، أو النّفوذ. إن كان السّيد المسيح من جانبه لا ينزع التّجربة عنا، بل يهبنا نعمته التي تسندنا. عندها يتمجّد اللَّه فينا، وندخل معه إلى طريق الكمال. فعلينا نحن أتباع السيد المسيح، أن نُسرّ بكلّ الضّيقات التي تحلّ بنا مادامت من أجل المسيح. لأنّه ليس بالإنسان القويّ يصبح المسيحيّ قويًا، لكن من حيث هو ضعيف يصير بالسيد المسيح قويًّا. على المسيحيّ ألا يحتمل التّجارب بصبرٍ فحسب، وإنّما بمسرّةٍ، وبهجة قلب، ووداعة، عندها فقط يرث الأرض. ولذلك يقول إنجيل التّطويبات: "طوبى للودعاء لأنّهم يرثون الأرض"(متى 5: 5). الودعاء هم ذوو القلوب المتّسعة البسيطة التي تحتمل إساءات الآخرين، ولا تقاوم الشّرّ بالشّرّ. هم الواثقون بمسيحهم، يقابلون من يعاديهم بابتسامة وديعة، ولا تربكهم إساءات الآخرين فيفقدوا سلامهم، ليس عن ضعف (فالمسيح القويّ كان وديعًا)، بل ثقة في قوّة المسيح. ومَن وضع ثقته بالله سيرث الأرض وما فيها، عندها فقط لا نعد نكترث بالعدد، إنّما بالنّوعيّة التي هي ملح هذه المنطقة، وكلّ ساعٍ إلى إفراغ الشّرق من أصوله وجذوره، سيخسر، بتواضع، الخميرة التي تخمّر فرادة هذا المشرق، لأنّنا نكون قد خسرنا أورشليم الأرضيّة وربحنا أورشليم السّماويّة. وعليه، إذا فهم المسيحيّون، ولا سيما الشباب، لاهوتهم، لا نعود نخاف على حضورنا، ووجودنا في هذا الشّرق. حينها ،نخرج من خوف العدد إلى أهمّيّة النّوعيّة، ومن خوف المصير المجهول، والإحباط إلى رحاب الأمان والانتصار، ومن خوف الفناء إلى الحياة الخالدة.

قد يقتنع البعض من المسيحيّين بهذا الكلام، ويستهجنه الذين يؤمنون بالسّيف، والدّم، والعمالة، والتّبعيّة. إنّما الحقيقة الساطعة تكمن في أنّ المسيحيّين أبناء السّلام، وأبناء التّسامح، وأبناء الإيمان، والرّجاء، والمحبّة، وأعظمها كلّها "المحبة".