ليس ​لبنان​ُ بِمُختَزَلٍ، وِفقَ ما يُريدُه البَعضُ، وهو لَيسَ بِتابِعٍ مَرضاةً لِطواعِيَّةِ تَمَنيَّاتٍ. لا هو بِفينيقيٍّ ولا بِرومانيٍّ. لا هو بِبيزنطيٍّ ولا بِعرَبيٍّ، ولا بِعُروبيٍّ. لا هو بِمَشرِقيٍّ ولا بِعُثمانيٍّ. لا بِمُستَغرَبٍ ولا بِقَوميٍّ... يَستعطي نَعتاً وِفقَ اهواءِ مَن تأدلَجَ في تاريخٍ كما في حاضِرٍ، علَّه يؤطِّرُ المُستَقبَلَ في غَياهِبَ تَحَجُّرِهِ.

لبنانُ لَيس الَّا بِلُبنانيٍّ. "طائِفتي هي لبنان"، صَرَخَ ذاتَ يومٍ ذاكَ البَطريَركُ المؤسِّسُ الياس الحويِّك، والعالَمُ في ذُروَة التَصارُعِ الكِبير الأوَّلِ.

وَكفى!.

هَكَذا كان وهَكَذا سيَبقى، مُدرِكاً أبَداً انَّ مَن يَتصارَعونَ على تَمزيقِهِ بِنُعوتٍ مُقصِيةٍ لِحَقيقَتِهِ، إرضاءً لأطماعّ أسيادٍ هُم لَهُم عَبيدٌ، يُقَزِّمونَهُ رَغبَةً في تَمَلُّكِهِ او شَهوَةً للتَساوي بِهِ... وهو، على أبَدِيَّتِهِ، أكبَرُ مِنهُم. هُم تَبدُّدُ ريحٍ وهو مُتأبِّدٌ امامَ عُبورِ الزائِلِ. هُم في أوحالِ النُفورِ تَجارِبُهُم سُقوطٌ، وهو في ذُهولِ العِزَّةِ سُلطانُهُ خَلاصٌ.

ولبنانُ اللبنانيُّ لَيسَ بِجامدٍ. هو القائِلُ لِلقِمَمَ: كوني فَتَكونُ، ولِلصحراءِ: إنبَسِطي، فَتَنسَدِلُ، ولِلبَحرِ: تلاطَم، فَيَضُمَّ البَسيطةُ. ولأجلِ عَهدِهِ مَعَ غَمرِ الخَلائِقَ، يَتناغَمُ والنورَ المُشِّعَ مِن أحداقِهِ، وَهو غامِرٌ بالرِضى نَفَسَهُ وَصُنعَ حِكمَتِهِ.

وأن يكونَ لبنانيَّاً فَهذا حَقٌّ طبيعيٌّ، هو الفارِضُ ايقاعَهُ عَلى أكثَرَ مِن بُعدٍ: إنسانيٍّ، عالَميٍّ، حَضاريٍّ. مَلَكوتُهُ مِن هَذا العالَمِ ولأجلِهِ. هو بادِىءُ مَن أدخَلَ اللامَنظورَ الى المَنظورِ، وأوَّلُ مَن إحتَرَفَ اللقاءَ وَجهاً لِوَجهٍ، في مُشافَهَةِ المَقصودِ بِعَظَمَةِ التَجسيدِ، والتَجَلِّي في مُغالاةِ الفِداءِ. وَحدُهُ بِذَلِكَ الغاءُ لأيِّ رَيبٍ وَلَيسَ في ذَلِكَ مِن سِرٍّ.

"لُبنان قَلبُ العالَمِ وَعقلُهُ"، صَرَخَ ذاكَ الحَبرُ الأعظَمُ اللاهوتيُّ الأكبَرُ بنديكتوس السادس عشر، والعالَمُ في ذُروَةِ التَفَكُّكِ الأفظَع. هو قَلبُهُ مُتماهٍ مَعَ قَلبِ الله الخالِقِ، وَعقلُهُ مُتَّفِقٌ مَعَ عَقلِهِ الخَلوقِ. لا مَعانيَ الفَسادِ قادِرَةٌ عَلَيهِ، ولا تَحَكُّمُ التَحجيمِ يُبَدِّلُهُ.

بِقَلبِهِ يُنقِذُ عالَمَ الأنانيَّةِ وَالإقصاءِ وِالخِطيئَةِ، وَبِعَقلِهِ يُحَرِّرُ عَوالِمَ الشَرِّ وَالتَسَلُّطِ والخَطيئَةِ. وَفي ذَلِكَ مَهابَتُهُ. وَهي إنتِسابٌ الى خاصِيَّةٍ على مَدى البَشَريَّةِ وَعلى إتِّساعِ المَسكونَةِ، هو مِن إبتكارِهِ. لَولاهُ، لَكانَ ايُّ أحَدٍ تمادى لاصِقاً بِأيٍّ كانَ صَفَةً تَستَجلِبُهُ الى وِحشَةِ استفرادٍ... من دون وازِعٍ.

هو لبنانُ يَحمِلُ، في عَقلِهِ وَقَلبِهِ، شَرِكَةَ المِثالِ والمُخاطَبَةِ، وتَقديسَ الخَليقَةِ وإعلاءَ مُطلَقِها؟ بِهِما هو النُواةُ.

نواة الأُمَمِيَّةِ

لقد رَمَى لبنانُ في العوالِمَ بِذرَةَ الأمَمِيَّةِ الحَقَّةِ، التي نُبلُها الكِلِمَةُ، وَسُكناها وَطنِيَّةٌ لاعُنصُرِيَّةٌ، أسَسِيَّتُها رَسولِيَّتُها لا تواطؤها الإلغائي. أنَّه بِذَلِكَ أكثَرُ مِن الكَثيرِ! حَتماً، فَكَيفَ إذذاكَ يَرتَضي بِصِفاتِ إختِزالٍ هي إستِعاضاتٌ مِن سَرابٍ لِسياساتٍ مِن فَشَلٍ شائِعٍ. الغَرابَةُ لا في أن يَنبُذَها، بَل في أن يَتِقَّبَلَها.

لا لبنانَ مِن دونِ وَطَنٍ، ولا لبنانَ الَّا في وَطَنٍ؟ بَل لا لبنانَ الَّا مِن هذا الوَطَنِ... للعوالِمَ كُلِّها، لا لِشَرقٍ سَجينَ عُروبيَّاتٍ تَقاذَفَتهُ حَدَّ التنَكُّرِ ثُمَّ إقصاءَ حَقيقَتِهِ في حِرَفيَّةٍ جَوفِيَّة، ولا لِغَربٍ سَجينَ حواضِرَ تَلاعَبَت بِهِ حَدَّ التَنَكُّرِ ثُمَّ إصطِباغُ حَقيقَتِهِ... في حِرَفيَّاتٍ فَوقِيَّةٍ.

سِرُّ أسرارِهِ، أنَّهُ مِنَ الروحِ يَنزَعُ الى الجَسَدِ، فيما الشَرق أسَرَ الروحَ والغَربُ إستأثَرَ بالجَسَدِ. وَلبُنانِيَّتُهُ، إحياءٌ للروحِ وإحياءٌ للجَسَدِ، حَياةٌ للروحِ وَحياةٌ لِلجَسَدِ... وَلَن يَقوى شَرقٌ أن يَستأثِرَ بِزَمنيَّاتِهِ وَلا غَربٌ أن يُلغيَ روحِيَّاتِهِ... مَهما ألصِقَت لَهُ مُختَزَلاتٌ.