لِقاءُ قائِدِ المِئةِ الرُّومانيّ[1] بِالرَّبِ يَسوعَ المَسيحِ، هُوَ لِقاءُ قَائِدٍ أَرضيّ بِقائِدٍ سَماوِيّ. الأوَّلُ تَحتَ إمرَتِهِ جُنودٌ مُدجَّجونَ بِالحَديدِ، ومُدَرَّبونَ أَفضَلَ تَدريبٍ عَلى القِتالِ، أَمَّا الثَّاني فَتَجْثُو لَهُ كُلُّ رُكْبَةٍ مِمَّنْ فِي السَّمَاءِ وَمَنْ عَلَى الأَرْضِ وَمَنْ تَحْتَ الأَرْضِ[2].

غَريبٌ هَذا اللّقاءُ، ومُدهِشٌ في الوَقتِ ذَاتِه. تُرى مَا الّذي حَصَلَ في ذلكَ اللّقاء؟ ومَا هِيَ الرَّايَةُ الّتي كَانَت مَرفُوعَةً حينَها؟.

القَائِدُ الرُّومانيُّ يُمَثِّلُ إمبرَاطُورِيَّةً كَبيرةً، تَمتَدُّ مِنَ الغَربِ إلى الشَّرقِ، والثَّاني مَملكتُهُ لا حُدُودَ لَها ولا زَمَن، لَيسَت مِن صُنعِ إنسانٍ، وهُو خَالِقُ الشَّرقِ وَالغَربِ وَكُلِّ اتّجاهَاتِ الدُّنيا، الّتي تُقاسُ وَالّتي لا تُقاسُ، المَنظُورَةِ وغَيرِ المَنظُورَة. الأَوَّلُ لا تَغيبُ الشَّمسُ عَن الإمبراطُورِيَّة التي يَتبعُ لها، وذَلِكَ لِوُجُودِها في طَرَفَي العَالَم، وَالثَّاني صَنَعَ الشَّمسَ وَالقَمرَ وَكُلَّ الكَواكِبِ، كَمَا نُصلّي فِي مَزمُورِ الغُروب، "صَنَعَ الْقَمَرَ لِلْمَوَاقِيتِ. الشَّمْسُ تَعْرِفُ مَغْرِبَهَا[3]."

الأَوَّلُ شِعارُهُ النَّسرُ مُحاطًا بِإكليلٍ مِن الغَار، ومَن يَحمِلُهُ يُدعى "Aquilifer" مِنَ الكَلِمَةِ اللّاتِينِيَّةِ Aquila أَي النَّسر، ويَقِفُ في مَوقِعٍ مُتَقَدِّمٍ في كتيبَةِ المِئةِ، وَالثَّاني يَجعَلُ مِن قِدّيسِيهِ نُسُورًا تُحَلِّقُ في سَماءِ لاهُوتِهِ، مُكَلَّلينَ بِالغَارِ المَلكُوتيّ، يَتَقدَّمُونَنا في مَسيرَةِ القَداسَةِ بَعد أن جَاهَدُوا الجِهادَ الحَسَنَ وَالمُستَقِيم.

الأَوَّلُ يَتزَيَّنُ بِرايَاتِهِ الحَمراءِ المَرفُوعَة، وَالثَّاني رَايَتُهُ الصَّليبُ المُقَدَّس، إشارَةُ الغَلَبَةِ وَالظَّفَر، الّذي عَلَيهِ غَسَلَ الرَّبُّ بِدَمِهِ الأَحمَرِ الكَريمِ وَالنَّقيّ خَطايا العَالَم.

مُدُنُ إمبراطوريةُ الأوَّلُ تُبنى بِاتِّجاهِ شُرُوقِ الشَّمس، أمَّا الثَاني فَهو الشَّمسُ الّتي لا تُقهَرُ Sol Invictus الحَقيقِيَّةُ والّتي لا تَغيب.

بِاختِصارٍ، الأَوَّلُ مَهمَا عَظُمَ يَبقى مَخلُوقًا، أَمَّا الثَّاني مَهمَا تَواضَعَ فَهو الخَالِق.

إذًا إنَّهُ لِقاءُ الإنسَانِ باللهِ المُتَجَسِّدِ، الّذي أَخَذَ طَبيعَتَنا البَشَرِيَّةَ لِخَلاصِنا. وكَم جَميلٌ أَن نَعرِفَ أَنَّ رَمزَ كَرامَةِdignité قائِدِ المِئةِ الرُّومَانيّ كانَ "الكَرمَة"، أمّا رمزُ كَرامِةِ الإنسانِيَّةِ جَمعاءَ فهُوَ الرَّبُّ يَسوعُ المَسيحُ الّذي قَالَ: "أَنَا الْكَرْمَةُ الْحَقِيقِيَّةُ وَأَبِي الْكَرَّامُ[4]." فَكَرامَتُنا سَماوِيَّةٌ بامتياز.

نَقرَأُ في إنجِيلِ هَذا الأَحَدِ[5] "في ذَلِكَ الزَّمانِ دَخَلَ يَسوعُ كَفْرنَاحُومَ، فَدنا إليهِ قَائِدُ مِئةٍ، وَطَلَبَ إلَيهِ قائِلاً: يَا رَبُّ إنّ فَتايَ مُلقىً في البَيتِ مُخَلَّعًا يُعذَّبُ بِعَذَابٍ شَدِيد. فَقالَ لهُ يَسوعُ: أنا آتِي وأَشْفِيهِ".

تُرى هَل أَدرَكَ قَائِدُ المِئَةِ في حِينِها أَنَّ لِقاءَهُ هَذا أَخرَجَهُ مِنَ الزَّمَنِ الأَرضِيّ، وأَدخَلَهُ في "الوَقتِ" المُقَدَّسِ، كَما يَقُولُ الكاهِنُ استِعدَادًا لِلقُدَّاسِ الإلَهِيّ: "هَا هُوَذَا وَقتٌ يُعمَلُ فِيهِ للرَّب"؟.

وفِي المُقابِلِ، هَل نُدرِكُ نَحنُ أنَّ كُلَّ لِقاءٍ مَعَ الرَّبِّ هُوَ وَقتٌ مُقَدَّس؟.

لا بَل أَكثرُ مِن ذَلِكَ، هَل نُدرِكُ أَنَّنا مَدعُوون لأَن نَجعَلَ مِن كُلِّ زَمَانِنا عَلى الأَرضِ وَقتًا مُقَدَّسًا؟

هَذا لا يَتِمُّ إلّا إذا أَدرَكنا أَنَّ كُلَّ عَظَمَتِنا الأَرضِيَّةِ، مَهما عَظُمَت، تَبقى لا شَيءَ أَمامَ مَجدِ الله. وبِالتَّالي، نَحنُ لا نُصبِحُ عُظَمَاءَ إلّا في سُكنَى اللهِ فينا. فَإذا قَائِدُ المِئةِ تَواضَعَ، وَطَلَبَ مِنَ المُخَلِّصِ شِفَاءَ فَتاهُ المَريضِ الّذي كانَ يَتعَذَّبُ عَذابًا شَدِيدًا، أَلا نَتواضَعُ نَحنُ ونَطلُبُ مِن يَسوعَ شِفاءَ نُفوسِنا الّتي تَتَعَذَّبُ جرَّاءَ ثِقَلِ خَطَايَاهَا؟.

الجَميلُ أَيضًا في هَذا اللّقاءِ، انتِصارُ حَضارَةِ المَحَبَّة، وحَضَارَةِ السَّلام، وَحَضارَةِ الرُّقي. فَإنَّنا نَرى قائِدًا عَسكَرِيًّا يَنحَني أَمامَ مَلِكِ السَّلام. لا بَل أَكثَرَ مِن ذَلِك، لَقد أَدرَكَ قَائِدُ المِئةِ هَذا، أَنَّ كُلَّ عَظمَتِهِ وسُلطانِهِ وسُلطَتِهِ ومَركَزِهِ ومَقامِه، كُلُّ ذلكَ عَاجِزٌ أَمامَ مَرَضِ غُلامِه، وَأَدرَكَ أَنَّ هُناكَ شَيئًا آخَرَأَعظَمُ مِنهُ بِكَثِير.

فقالَ ليَسوعَ: "يا رَبُّ لستُ مُستَحِقًّا أَن تَدخُلَ تَحتَ سَقفِي، ولَكنْ قُلْ كَلِمَةً لا غَيرَ فَيبرَأ فَتَايَ[6]". الّذي جَعَلَ قَائِدَ المِئَةِ يَنطِقُ بِعَدَمِ استِحقَاقِه، هُوَ رُجوعُه إلى ذَاتِه، فَماثَلَ بُطرُسَ الّذي قَالَ للرَّبِّ بَعدَ عَجِيبَةِ صَيدِ السَّمكِ: «أُخْرُجْ مِنْ سَفِينَتِي يَا رَبُّ، لأَنِّي رَجُلٌ خَاطِئٌ![7]».

اللافِتُ هُنا أَنَّ عَذابَ الفَتى المَريضِ، بَلَغَ أُذنَي قَائِدِهِ، وَدَخَلَ قَلبَهُ، فَشَعَرَ وكَأَنَّ الألَمَ أَلَمُه ، فَكم مِن قائدٍ وحَاكِمٍ ومَسؤُولٍ لَم يَعُد بَعدُ إلى ذَاتِهِ، ولَم يُدرِكْ عَجزَهُ، وَلا يَشعُرُ بِوَجَعِ شَعبِهِ وعَذابِه؟.

فَلِمَ تَكبُّرُ الإنسانِ وَغَطرَسَتُهُ: "لأَنَّ رِيحًا تَعْبُرُ عَلَيْهِ فَلاَ يَكُونُ، وَلاَ يَعْرِفُهُ مَوْضِعُهُ بَعْدُ[8]".

أَتَذَكَّرُ في هذا السّياقِ ما قرأتُهُ عن لِقَاءٍ فَريدٍ حَصَلَ بَينَ القِدّيسِ سِيرافيمَ سَاروف[9]، وَقائِدِ الجَيشِ الرُّوسيّ المستقيل حينَها. حَضَرَ قائدُ الجيشِ هذا بلِباسِه الرَّسميّ المُزَيَّنِ بالأَوسِمَةِ العَسكَريَّة، إلى قَلّايَةِ القِدّيسِ، وسُرعانَ ما انَكَشَفَ المَستُورُ، إذ لا خَفِيَّ أَمامَ نُورِ اللهِ، فَبَدأتِ الأَوسِمَةُ تَتساقَطُ عَن صَدرِ قَائِدِ الجِيشِ، واحِدٍ تِلوَ الآخَرَ على الأرضِ، وأَخَذَ القِدّيسُ سِيرافِيمُ يَجمعُها وَيَضَعُها في قُبَّعَةِ زائِرِه التي خَلَعَها عِند دُخوله، ووَضعَها إلى جَانِبه.

كما سُمِعَ صَوتُ بُكاءِ القَائِدِ إلى خَارِجِ بابِ القَلايَة. وَكانَتِ الدَّهشَةُ الكُبرَى عِندَما خَرَجَ القِدّيسُ سيرافيمُ مِن قَلّايَتِهِ بَعدَ انتِهاءِ اللّقَاءِ، وَهُوَ يُمسِكُ قائِدَ الجَيشِ مِن يَدِهِ، فيما القائدُ مُستَمِرًّا في البُكاءِ ويَضَعُ وَجهَهُ بَينَ يَدَيهِ، ناسيًا قُبَّعَتَهُ وَأَوسِمَتَه دَاخِلَ القَلّايَة.

يا لَلمَشهَدِ البَديعِ! لَقد دَخَلَ قَائِدُ الجَيشِ مُمتَلِئًا مِن مَجدِهِ الأَرضيّ، لِيَخرُجَ عُريَانًا بِالكُليَّةِ مِن كُلِّ مَجدِهِ الزَّائِف. سَبَبُ كُلِّ ذَلِكَ، أَنَّ قَائِدَ الجَيشِ هَذا، كَانَ مُتَكَبِّرًا جِدًّا، ولَم يَكُن صَادِقًا في مَسيرَتِهِ العَسكَرِيَّة، وَكانَ قَد بَلَغَ مَركَزَهُ الرَّفيعَ هذا بِطُرُقٍ مُلتَوِيَةٍ، ونالَ أَوسِمَةً لا يَستَحِقُّها. ولا نَعرِفُ حَقًّا إن كان لقاؤه بالقِدِّيسِ، وانكِشافُ حَقيقَتِهِ وَبُكاؤهُ، ما جَعَلَه يُعِيدُ حِسابَاتِه، ويُولَدُ شَخصًا جَدِيدًا تَائِبًا وَصادِقًا، مُصلِحًا مَا أَفسَدَه.

هَلّا دَعَونا الرَّبَّ لِيَدخُلَ كَفَرنَاحومَ[10] نُفوسِنا فَتَتَعَزَّى قُلوبُنا، ونَتوبُ عَن خَطايَانا، فنَنجو من صَفِّ أَبناءِ الملَكوتِ الّذينَ قالَ عنهُم الرَّبُّ يَسوعُ المسيح : "أقول لكم إنَّ كَثيرينَ سَيأتُونَ مِنَ المَشارِقِ وَالمَغارِبِ ويَتَّكِئونَ مَعَ إبراهيمَ وإسحقَ ويعقوبَ في ملكوت السَّماوَاتِ، وأَمَّا بَنُو المَلَكُوتِ فَيُلقَونَ في الظُّلمَةِ البَرَّانِيَّة. هُناكَ يَكونُ البُكاءُ وصَريفُ الأسنان[11]".

إلى الرَّبِّ نَطلُب.

[1]. متى ٥:٨-١٣

[2]. فيليبي ١٠:٢

[3]. مزمور ١٩:١٠٤

[4]. يوحنا ١:١٥

[5]. متى ٥:٨-٧

[6]. متى ٨:٨

[7]. لوقا ٨:٥

[8]. مزمور ١٦:١٠٣

[9]. ١٧٥٩-١٨٣٣

[10]. اسم كفرناحوم يعني قرية العزاء.

[11]. متى ١١:٨-١٢