منذ 17 تشرين الأول من العام 2019، دخل لبنان مرحلة جديدة من الحياة السياسية، كان عنوانها الأساسي السعي إلى محاصرة "​حزب الله​"، من خلال تفجير الملفّات الداخليّة دفعة واحدة، الأمر الذي لم يمنع ​الولايات المتحدة​، في تلك اللحظة التاريخية، من التفكير بالتخلّي عن بعض حلفائها، تحت عنوان مكافحة الفساد، في حال كان ذلك سيقود في نهاية المطاف إلى إضعاف الحزب.

إنطلاقاً من ذلك، جرى رفع مستوى الضغوط إلى الحدود القصوى، لكن ليس بالشكل الذي يقود إلى تفجير الأوضاع بشكل كامل، خوفاً من التداعيات التي من الممكن أن تترتب على الوضع في الجبهة الجنوبية، لا سيما أن أمين عام "حزب الله" ​السيد حسن نصرالله​ كان قد أطلق، في شهر حزيران من العام 2020، تهديداً مفاده: "لن نجوع ولن نسمح أن يجوع لبنان.."، متحدّثاً عن أن الحزب لديه معادلة مهمة وخطيرة، لم يكشف عنها في حينه،في حال استمر الأميركيون في محاولتهم لتجويع اللبنانيين.

في ذلك الخطاب، أشار السيد نصرالله إلى ما كان قد تحدث عنه، في خطابه أول من أمس، حيث أكد حينها أن "من سيضعنا بين خيار القتل بالسلاح أو الجوع سيبقى سلاحنا في أيدينا ونحن سنقتله"، بينما في المعادلة الجديدة قال: "التهديد بالحرب أو الذهاب إلى الحرب أشرف بكثير من أن يدفع لبنان باتجاه الإنهيار والجوع".

في الفترة الفاصلة عن الخطابين، العنصر الأهمّكان التدرّج في رفع مستوى أهمّية ملفّ الغاز في أدبيات الحزب، تحديداً في فترة الدخول جدياً مرحلة ​الإنتخابات النيابية​، حيث كان هذا الأمر حاضراً، عبر التركيز على أهميته في معالجة الأزمة الماليّة والإقتصاديّة، في جميع خطابات السيد نصرالله، وصولاً إلى الدخول في مرحلة رسم المعادلات في خطابه ما قبل الماضي، الأمر الذي حسم بشكل واضح أول من أمس.

من حيث المبدأ، يمكن الجزم بأن أمين عام "حزب الله" عمد إلى تضييق هامش المناورة أمام الجانب الأميركي، عبر الخروج من معادلة ​ترسيم الحدود​ وفق قاعدة كاريش مقابل قانا، إلى معادلة أخرى: "لن يستطيع أحد أن يستخرج أو يبيع غاز ونفط، بحال كان ممنوعاً على لبنان أن يستنقذ نفسه"، لكن الأهم يبقى التنبّه إلى أمر بالغ الدقّة يتعلق بالجدول الزمني، أيّ شهر أيلول المقبل، نظراً إلى إداركه الحاجة الأميركيّة والأوروبيّة إلى الغاز قبل بداية الشتاء، في ظلّ الحرب القائمة في أوكرانيا.

ما تقدّم يقود إلى أنّ السيناريوهات، من حيث المبدأ، باتت محصورة بين: الذهاب إلى التسوية أو الى الحرب، لكن ضمن هذين السيناريوهين الكثير من الأسئلة التي من المفترض أن تطرح، على قاعدة أن الحرب ستكون مكلفة جداً لمختلف الجهات، إلا أن لبنان قد يكون الأقل تضرراً منها على المستوى الإستراتيجي، بينما الذهاب إلى التسوية، التي ستؤمّن حاجة الجانبين الأميركي والأوروبي من الغاز، لها تكاليفها أيضاً.

الذهاب إلى أيّ تسوية، تعطي لبنان ما يطالب به ضمن الشروط التي وضعها أمين عام "حزب الله"، يعني تسليمه إنتصاراً كبيراً برعاية أميركية وأوروبية، على قاعدة أن ّهذا الملف ما كان لينجز بهذه الطريقة لولا التهديد بالقوّة التي يمتلكها، الأمر الذي يفترض رسم علامات إستفهام حول ما إذا كانت واشنطن مستعدة له قبل نهاية ولاية رئيس الجمهورية ​ميشال عون​، نظراً إلى أنه سيصبّ في خانة تعزيز التأكيد على أهمية دور الحزب في حماية حقوق لبنان.

في الأشهر الماضية، طرحت، من ضمن السيناريوهات التي تتحدّث عن إحتمال الذهاب إلى تسوية، أن يعمد الجانب الأميركي إلى تقديم تسهيلات في هذا الملف، على أن يركز بعد ذلك على التشدّد في الملف الداخلي، على قاعدة أنه يكون بذلك قد قام بـ"تحييد" الجبهة الجنوبية عن أي تداعيات، لكن بعد خطاب، أول من أمس، الذي يصب، في مكان ما، بخانة التنبه إلى هذا الأمر، قد يصبح من الضروري التنبه أكثر إلى الأوضاع الداخليّة، سواء كان ذلك في الفترة الفاصلة عن أيلول أو بعد ذلك.

في المحصّلة، التكهّن بما قد تذهب إليه الولايات المتحدة على هذا الصعيد ليس بالأمر السهل، لكن الأكيد أن خروج أمين عام "حزب الله" من إطار الإتفّاق على ترسيم الحدود، وصولاً إلى المطالبة بـ"الإذن" بالإستخراج والتنقيب، ليس عاملاً بسيطاً من الممكن التسليم به بسهولة، وبالتالي أي مرونة قد تظهر من المفترضأن يقابلها مراقبة كيفية تطور الملف الداخلي بالتزامن معها، لا سيما أن عوامل التوتير حاضرة بقوة.