كَانَ الْيَهُودُ يَطْلُبُونَ أَنْ يَقْتُلُوا يسوع، لأَنَّهُ قَالَ إِنَّ اللهَ أَبُوهُ، مُعَادِلًا نَفْسَهُ بِاللهِ. (يوحنا ١٨:٥).

أُلوهِيَّةُ يَسوعَ كَانَت مَحطَّ رَفضٍ عِندَ اليَهُود. وَهُناكَ مَن يَسأل: هَل فَعلًا أَعلَنَ يَسوعُ عَن نَفسِهِ بِأَنَّهُ إله؟ وَيَطلُبُ آياتٍ في الأَناجِيلِ تُشيرُ إلى ذَلِك. وَهُناكَ مَن يَضَعُ يَسوعَ في مَصفِّ الأَنبِياء، وَآخَرُونَ يَكتَفُونَ بِأَنَّهُ رجلٌ صالحٌ، وعِندَهُ أَقوالٌ عَظِيمَةٌ، فَيكونُ بِالنِّسبَةِ لَهم مِنَ الأَشخَاصِ المُمَيَّزينَ الّذينَ مَرُّوا في التَّارِيخ، لا أَكثَرَ مِن ذَلِك.

مُقابِلَ كُلِّ هَذا يَسألُنا الرَّبُّ كَما سَأَلَ تَلامِيذَهُ: "مَنْ يَقُولُ النَّاسُ إِنِّي أَنَا ابْنُ الإِنْسَانِ"(متى ١٣:١٦).

الحَقيقَةُ أَنَّ يَسوعَ هُوَ نَفسُهُ تَامٌّ في الأُلوهَةِ وتَامٌّ في البَشَريَّة. وَاحِدٌ هُوَ في طَبيعَتَين مُتَّحِدَتَين دُونَ اختِلاطٍ ولا تَحَوُّلٍ ولا انقِسامٍ ولا انفِصَال. هَذا هُوَ إيمَانُنا ومَا نُبَشِّرُ بِه. وهَذا مَا أَعلَنَهُ الآباءُ القِدّيسُون الّذينَ نُقيمُ تَذكارَهُم هَذا الأَحَدَ في المَجمَعِ المَسكُونيّ الرَّابِع، مَجمَعِ خَلقِيدُونِية[1] عَامَ ٤٥١م. وقَد جَاءَ تَعريفُهُم هَذا تَأكِيدًا لِلإيمَانِ المَسِيحيّ مُنذُ البِدَايَةِ، ودَحْضًا لِكُلِّ هَرطَقَةٍ وانحِرَاف.

قَبلَ البَدءِ بِالشَّرحِ، لا بُدَّ منَ القَولِ إنَّ الآثَارَ وَالمَخطُوطَاتِ والاثباتاتِ على صِحَّةِ ما يَذكُرُهُ الكِتابُ المُقَدَّسُ عِندَ عُلَماءِ التَّاريخِ وَالآثَارِ كثيرَةٌ جدًّا، بَينَما سَقَطَت وتَسقُطُ كُلُّ الادِّعاءَاتِ المُضَادَّةِ الّتي تَقولُ عَكسَ ذَلِك. عَلى سَبيلِ المِثالِ ولَيسَ الحَصر، أَثبَتَ الاختصاصِيّونَ خُرافَةَ كِتابِ Le Code Da Vinci، الَّذي صَدَرَ عام ٢٠٠٣م، لم يأتِ بشيءٍ مُفيدٍ سوى أَنَّه حقَّقَ ثَروةً لِكاتِبِهِ الأَميركيّ Dan Brown، إذ بِيعَ مِنهُ أَكثَرَ مِن ٨٠ مَليون نَسخَة!.

كما نَجِدُ شَهادَاتٍ كَثيرَةً عَنِ الرَّبِّ من خِلالِ مُحيطِه أَنَّ يَسوعَ إلهٌ. فَالَّذينَ سَمِعُوهُ "بُهِتُوا مِنْ تَعْلِيمِهِ لأَنَّهُ كَانَ يُعَلِّمُهُمْ كَمَنْ لَهُ سُلْطَانٌ وَلَيْسَ كَالْكَتَبَة" (مرقس ٢٢:١). حتَّى أَنَّ الشَّياطِينَ قَالُوا عَنه: "مَا لَنَا وَلَكَ يَا يَسُوعُ ابْنَ اللهِ؟ أَجِئْتَ إِلَى هُنَا قَبْلَ الْوَقْتِ لِتُعَذِّبَنَا"؟(متى ٢٩:٨).

وظَهَرَ التَّحدّي الكَبيرُ عِندَمَا قَالَ الرَّبُّ: "مَنْ مِنْكُمْ يُبَكِّتُنِي عَلَى خَطِيَّةٍ؟" (يوحنا ٤٦:٨)، في حين لَم يَجرُؤْ أَحَدٌ على تَنزيهِ نَفسِهِ عنِ الخَطِيئَة، وأَبلَغُ مِثالٍ على ذلك حادِثَةُ المَرأةِ الزَّانِية[2]. لقد شفى يَسوعُ مَرضَى، وأَقامَ مَوتى، وغَفَرَ الخَطايا، إلاّ أنَّه إضافةً إلى ذلك كُلِّهِ دَعا سَامِعيهِ إلى الإيمَانِ بِه[3].

لِنَتوقَّفْ قليلًا عِندَ ما ذَكَرَهُ إنجِيلُ يُوحنّا: "اَللهُ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ قَطُّ. اَلابْنُ الْوَحِيدُ الَّذِي هُوَ فِي حِضْنِ الآبِ هُوَ خَبَّرَ" (يو١٨:١)، و"أَنَا وَالآبُ وَاحِدٌ" (يوحنا ٣٠:١٠). هل هذا تَجدِيفٌ؟

بِالطَّبعِ لا. إنَّ اعتِماد المنطِقِ البَشريّ لا يُخَوِّلُنا فهمَ شيء من هذا كُلِّهِ، لا بل يوقِعُنا في الشَّطط، لأنَّ المَنطِقَ البَشريَّ، مَهمَا عَظُمَ، يبقى مَخلُوقًا. فَكَلِمَةُ "ابن" هُنا، تُشيرُ إلى طَبيعَةِ اللهِ نفسِها، إذ إنَّ مَن نَتَكلَّمُ عَليهِ هُوَ يَسوعُ الّذي تَجَسَّد، الله ُالابنُ، وَهُوَ واحِدٌ في الجَوهَرِ مَعَ اللهِ الآب.

هَذا تَمامًا ما يَبدَأ بِهِ إنجِيلُ يُوحنّا: "فِي الْبَدْءِ كَانَ الْكَلِمَةُ، وَالْكَلِمَةُ كَانَ عِنْدَ اللهِ، وَكَانَ الْكَلِمَةُ اللهَ"، وأيضًا "الْكَلِمَةُ صَارَ جَسَدًا وَحَلَّ بَيْنَنَا"(يوحنا ١: ١/١٤).

هل نَتكَلَّمُ هنا عَلَى إلَهَين؟ هل هذا تَشريكٌ؟ بِالتأكيدِ لا، فَمِن فَيضِ مَحبَّةِ اللهِ اللامُتنَاهِيةِ لَنا، تَجسَّدَ دُونَ أن يَفقِدَ شَيئًا مِن أُلُوهِيَّتِه.

لا يُمكنُ فَهمُ كُلِّ ذَلِكَ إلّا بِالمَحَبَّةِ وَالتَّضحِيَةِ وبَذلِ الذَّات. فَمَنطِقُ اللهِ وتَدبيرُهُ أَكبَرُ بِما لا يُقاسُ مِن استيعابِ الإنسانِ مهمَا حَاوَلَ لذلكَ سبيلاً، ولَكن، ومِنَ المؤكَّدِ، يستَطيعُ الإنسانُ عَيشَ ثِمارِ تَدبيرِ الله وَحلاوَتِه. لِهذا يُخاطِبُنا القِدّيسُ يُوحنَّا الإنجيليّ، في رِسالَتِهِ الأُولى قائلًا: "بِهذَا أُظْهِرَتْ مَحَبَّةُ اللهِ فِينَا: أَنَّ اللهَ قَدْ أَرْسَلَ ابْنَهُ الْوَحِيدَ إِلَى الْعَالَمِ لِكَيْ نَحْيَا بِهِ." (١ يوحنا ٩:٤)

وَرُبَّ سَائِلٍ: أَلا نُدعَى نَحنُ أيضًا أَبناءَ اللهِ؟ الجَوابُ: الأَمرُ مُختَلِفٌ بِشَكلٍ جَوهَري. نَحنُ أَبناءُ اللهِ بِالتَّبنّي، وطَبيعَتُنا لَيست إلَهِيَّةً مِثلَه، إذ "لَمَّا جَاءَ مِلْءُ الزَّمَانِ، أَرْسَلَ اللهُ ابْنَهُ مَوْلُودًا مِنِ امْرَأَةٍ، مَوْلُودًا تَحْتَ النَّامُوسِ، لِيَفْتَدِيَ الَّذِينَ تَحْتَ النَّامُوسِ، لِنَنَالَ التَّبَنِّيَ." (غلاطية ٤:٤-٥).

أَمامَ هَذا كُلِّهِ، لا يَجوزُ أن نَبقَى عَديمي البَصيرَةِ، وسُؤالُ يَسوعَ وَجَوابُه للَّذي وُلِدَ بلا مُقلَتَين، وجَبَلَ له الرَّبُّ عَينَين، خَيرُ جَوابٍ لَنا، إذ سَألَ يَسوعُ الأعمى: "أَتُؤْمِنُ بِابْنِ اللهِ؟" "أَجَابَ ذَاكَ وَقَالَ: "مَنْ هُوَ يَا سَيِّدُ لأُومِنَ بِهِ"؟ فَقَالَ لَهُ يَسُوعُ: "قَدْ رَأَيْتَهُ، وَالَّذِي يَتَكَلَّمُ مَعَكَ هُوَ هُوَ"!(يوحنا ٣٥:٩-٣٧).

كَما يَجِبُ ألّا نَنسى ثَناءَ الرَّبِّ على جَوابِ بُطرُسَ: "أَنْتَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ اللهِ الْحَيِّ"(متى ١٦:١٦).

لقَدِ انذَهَلَ اليَهودُ عِندَما قَالَ لَهُمُ الرَّبُّ "مَتَى رَفَعْتُمُ ابْنَ الإِنْسَانِ، فَحِينَئِذٍ تَفْهَمُونَ أَنِّي أَنَا هو" (يوحنا ٢٨:٨)، و "قَبْلَ أَنْ يَكُونَ إِبْرَاهِيمُ أَنَا كَائِنٌ" (يوحنا ٨: ٥٨). كَذَلِكَ جَوابُه لِرَئيسِ المَجمَعِ اليَهُوديّ عِندَمَا سَألَه "أَأَنْتَ الْمَسِيحُ ابْنُ الْمُبَارَكِ"؟، فَقَالَ يَسُوعُ: "أَنَا هُوَ"(مرقس ٦١:١٤-٦٢).

عِبارَةُ "أنا هو"، ومَعنَى اسمِ يَسوعَ، هِي "يَهوه يُخَلِّص"، أَي "الكائِنُ/اللهُ يُخلِّص". هذا ما قَالَهُ اللهُ لِمُوسى النَّبيّ عن اسمِهِ (خروج ١٥:٣)، وقالَهُ المَلاكُ لِيُوسُفَ "َإنَّ الَّذِي حُبِلَ بِهِ فِيهَا (مريم) هُوَ مِنَ الرُّوحِ الْقُدُسِ. فَسَتَلِدُ ابْنًا وَتَدْعُو اسْمَهُ يَسُوعَ. لأَنَّهُ يُخَلِّصُ شَعْبَهُ مِنْ خَطَايَاهُمْ"(متى ٢٠:١-٢١).

خُلاصَةً، إنَّ الطَّبيعَةَ شَهِدَت لَهُ، وأَطاعَتهُ الرِّياحُ وسَكَنَت، وتَشقَّقَتِ الصُّخورُ، وتَزلزَلَتِ الأَرضُ، وغَابَتِ الشَّمسُ عندَ صَلبِه، "وَأَمَّا قَائِدُ الْمِئَةِ وَالَّذِينَ مَعَهُ يَحْرُسُونَ يَسُوعَ فَلَمَّا رَأَوْا الزَّلْزَلَةَ وَمَا كَانَ، خَافُوا جِدًّا وَقَالُوا: «حَقًّا كَانَ هذَا ابْنَ اللهِ!». (متى ٥٤:٢٧).

في العَهدِ القَديمِ كانَ الشَّعبُ العِبريُّ يُصلّي يَومِيًّا: "اِسْمَعْ يَا إِسْرَائِيلُ: الرَّبُّ إِلهُنَا رَبٌّ وَاحِدٌ" (تثنية ٤:٦)، ونحن نَصرُخُ لِيسوعَ مَعَ توما الرَّسولِ «رَبِّي وَإِلهِي!» (يوحنا ٢٨:٢٠)، ونُعلِنُ: اسمَعُوا يا شُعوبَ العَالَمِ أَجمَع، الرَّبُّ يَسوعُ المَسيحُ الإلَهُ، رَبٌّ وَاحِدٌ، هُوَ المُخلِّصُ الوَحيد. فَكُلُّ النُّبوءَاتِ تَكَلَّمَت عَلَيه، وتَحَقَّقَت فِيهِ، وهَا هُوَ مَعَنا إلى أَبَدِ الآبِدِينَ، آمين.

إلى الرَّبِّ نَطلُب.

[1]. في الثالث عشر من تموز، إذا وَقَعَ يَومَ أَحدٍ أو أَيّ أَحَدِ يَليهِ، تُقيمُ الكَنيسةُ الأُرثوذُكسيّةُ تَذكارَ آباءِ المَجمَعِ المَسكونيّ الرَّابِعِ، الستمئة والثلاثين المجتعين في خلقيدونية عام ٤٥١م.

[2]. «مَنْ كَانَ مِنْكُمْ بِلاَ خَطِيَّةٍ فَلْيَرْمِهَا أَوَّلًا بِحَجَرٍ!» (يوحنا ٧:٨).

[3]. "فَإِنْ كُنْتُ أَقُولُ الْحَقَّ، فَلِمَاذَا لَسْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِي؟" (يو ٤٦:٨).