لا يزال الخطاب الأخير للأمين العام لـ"​حزب الله​" ​السيد حسن نصر الله​ محور أخذ وردّ في الداخل والخارج على حدّ سواء، بعد ما انطوى عليه من تهديد صريح بـ"الحرب"، على خلفيّة التعامل ال​إسرائيل​ي مع ملف ​ترسيم الحدود البحرية​، والاستفزازات المستمرّة ل​لبنان​ على هذا الصعيد، وذهابه لحدّ وصف الحرب بأنّها "أشرف بكثير" من "الموت جوعًا" على أبواب الأفران ومحطات المحروقات، نتيجة الانهيار الاقتصادي غير المسبوقة.

ورغم تسجيل الكثير من المراقبين "برودة" على مستوى ردود الفعل على الخطاب، الذي وُصِف بـ"الحربي"، فيما لم ترقَ المواقف منه إلى المستوى نفسه، حتى إنّ معظم القوى السياسية الأساسية والفاعلة أحجمت عن التعليق عليه حتى الساعة، توقف كثيرون عند توقيته "الرمزي"، تزامنًا مع الذكرى السنوية السادسة عشر ل​حرب تموز​، ما طرح علامات استفها عمّا إذا كان "حزب الله" يسعى لاستعادة مشهد العام 2006، بشكل أو بآخر.

لكنّ الخطاب تزامن أيضًا مع زيارة الرئيس الأميركي ​جو بايدن​ اللافتة إلى المنطقة، حيث شملت تل أبيب والرياض، في وقت كثرت التحليلات المرتبطة بها، والاستنتاجات حول "تبعاتها" على العديد من الملفات والقضايا والاستحقاقات، ولا سيما مع التسريبات التي تحدّثت عن "تحالف أمني" يرغب البعض في "تأسيسه" لمواجهة ​إيران​، التي لا يبدو أنّ ملفّها النووي يسير وفق تطلعات طهران وآمالها، فيما يبدو حوارها مع ​السعودية​ "عالقًا".

إزاء ذلك، تُطرَح الكثير من علامات الاستفهام، فما هي فرص الحرب بعد خطاب السيد نصر الله، علمًا أنّ جمهوره "الافتراضي" عبر وسائل التواصل بدأ "الحشد والتعبئة" استعدادًا للمواجهة التي أوحى بأنّها أصبحت "حتميّة"؟ وهل هذا السيناريو هو فعلاً الذي يريده "الحزب" في هذه المرحلة، أم أنّ "رسائل" الخطاب "أعمق" من مثل هذه المواجهة، والمطلوب أن تصل إلى المحيطين الإقليمي والدولي قبل الداخل، المعروفة مواقفه سلفًا؟!.

الأكيد، وسط كلّ هذه المعمعة، أنّ ردود الفعل "المتواضعة" على خطاب السيد نصر الله لم تخرج عن دائرة التوقعات والرهانات، فالمعترضون على "مصادرة" قرار الحرب والسلم واحتكاره من جانب فصيل لبناني محدّد كانوا "معروفين سلفًا" لقيادة الحزب، وفق ما تقول أوساط عارفة بأدبيّاته، حيث تشير إلى أنّ الأمين العام للحزب تحدّث أساسًا عن هؤلاء في خطابه، رافضًا "المنطق" الذي يستندون إليه، ومقلّلاً من شأن "رمزيّته".

لكنّ الأوساط المطّلعة على موقف "حزب الله" تنفي في الوقت نفسه، التحليلات والسيناريوهات التي أوحت بأنّ خطاب السيد نصر الله كان بحدّ ذاته "البيان الرقم واحد" الذي يعلن "صافرة انطلاق" المواجهة العسكرية، مشيرة إلى أنّ الخطاب قد يكون بهذا المعنى "الإنذار الأخير" قبل أن تدقّ "ساعة الحقيقة"، لأنّه وضع جميع الأطراف أمام مسؤولياتهم، على أن يُبنى على الشيء مقتضاه، وأكد أنّ المهلة "غير مفتوحة"، خصوصًا أنّ الوقت بدأ "يضيق" عمليًا.

وفيما تعرب هذه الأوساط عن اعتقادها بأنّ الإسرائيليين "فهموا الرسالة" جيّدًا، وأدركوا أنّ ما قاله السيد نصر الله في خطابه الأخير "جدّي ومسؤول"، ولا يندرج أبدًا في سياق "الحرب النفسية"، تستهجن وضع مواقفه من جانب البعض في لبنان في خانة "التشويش" على موقف الدولة، أو اعتبارها "إجهاضًا" للمفاوضات، في حين أنّها "على النقيض" من ذلك، ينبغي أن "تقوّي" موقف الدولة، إلا إذا كان البعض لا يزال حريصًا على معادلة "قوة لبنان في ضعفه".

لكن، في مقابل موقف "حزب الله" الواضح هذا، يعتبر الكثير من خصومه أنّ "أخطر" ما فيه قد يكون "استدعاء الحرب" الذي فُهِم جليًا خلف كلمات السيد نصر الله، الذي راح يعدّد "مزايا" المواجهة، بل يتغنّى بـ"الموت في الحرب"، في حين أنّ اللبنانيين لم ينسوا بعد مقولة "لو كنت أعلم" الشهيرة التي قالها في العام 2006، ما يدفع إلى التساؤل عمّا إذا كان يدرك هذه المرّة "تبعات" مثل هذا الموقف، الذي قد يجرّ البلاد إلى حرب قد يكون ممكنًا تجنّبها بالدبلوماسية.

ومع أنّ هناك من انتقد خصوم "حزب الله" على ما يمكن اعتبارها "ازدواجية" في موقفهم، فهم كانوا أول من استثاروا "حزب الله"، واستغربوا عدم تحريكهم ساكنًا عندما بدأت إسرائيل استفزازاتها للبنان في البحر، وإذا بهم اليوم "يقيمون القيامة" لأنّ الحزب قرّر التحرك، ورفض أيّ اعتداء على حقوق لبنان، يدافع هؤلاء عن أنفسهم، معتبرين أنّ التحرك "أفرغ من مضمونه"، من حيث التوقيت والشكل أولاً، والمضمون ثانيًا، في ظلّ ربطه بتطورات الإقليم.

ويتوقف هؤلاء في هذا السياق تحديدًا عند قول السيد نصر الله صراحةً في خطابه "والله أعلم ماذا سنفعل في المنطقة"، بل حديث عن احتمال "قلب الطاولة على العالم كله"، وهو ما يُخرِج برأيهم الموضوع من إطاره "المحصور" بملف الغاز والنفط وحقوق لبنان، ليشمل "المحور" الذي ينتمي إليه "حزب الله" في الإقليم بالمُطلَق، خصوصًا أنّ اللحظة الحالية لا تبدو لصالح المشروع الإيراني الكبير، وفق تعبير هؤلاء، على وقع "جمود" مفاوضات الملف النووي.

لكن، رغم أنّ هناك من بدأ "العدّ العكسي" للحرب، بل أنّ هناك من بدأ يضبط "عقارب ساعته" على "هوى" الحرب القادمة، يستبعد المتابعون أن تكون "احتمالات" الحرب قد أضحت فعلاً "في ذروتها" كما يتمّ الإيحاء، مشدّدين على أنّ أحدًا، بمن فيهم "حزب الله" وإيران، ليسوا راغبين عمليًا في الحرب في الظرف الراهن، علمًا أنّ اللبنانيين، بعيدًا عن "حماسة" بعض الجمهور "العاطفي"، ليسوا جاهزين لسيناريو حرب تموز جديدة اليوم.

وفيما يعتقد البعض أنّ احتمال "المواجهة المحدودة" يبقى أكبر، على طريقة "عملية مقابل ردّ"، كما جرى في أكثر من مناسبة، يرى البعض الآخر أن "الفرصة" تبقى للدبلوماسية خلال الفترة المقبلة، على أن تحدّد تطورات المفاوضات مسار الأمور بعد ذلك، علمًا أنّ "الخط الأحمر" يبقى بعدم الأخذ بالرأي اللبناني، ومحاولة فرض "الشروط" عليه، وهو ما لا يمكن لـ"حزب الله" أن يقبل به، وقد تكون الدولة أساسًا خلفه في ذلك.

الأكيد، وفق العارفين، أنّ المجتمع الدولي لن يتحمّس لأيّ حرب بين لبنان وإسرائيل في الوقت الحالي، ولعلّ البيان الذي صدر عن قمّة جدة بحضور الرئيس جو بايدن خير دليل على ذلك، حيث ركّز على أهمية الاستقرار في لبنان، "استقرار" يعتقد كثيرون انّه "مرهون" بالموقف من مفاوضات ترسيم الحدود، التي يحذر كثيرون من أنّ راعيها الأميركي لا يمتلك صفة "الحياد" المطلوبة، وهنا بيت القصيد!.