كَتب [1]Blaise Pascal، الذي تُوفِّيَ وهو في التّاسعةِ والثَّلاثينَ مِن العمر، كَتَبَ في مُدوَّناتِهِ "Pensées"، الّتي وُجِدَت بَعدَ مَوتِه: "كُلُّ تَعاسَةِ الإنسانِ تَكمُنُ في عَدَمِ مَعرفَةِ كَيفِيَّةِ البَقاءِ في حَالَةِ رَاحَةٍ، في غُرفَة[2]". قد بَدا لَهُ أنَّ سببَ تَعاسَةَ الإنسانِ هو في استِحالَةِ بقائهِ وَحيدًا.

مَن منّا لا يَطلُبُ الرَّاحَةَ؟ فَكيفَ لها أن تَكونَ مَصدَرَ تَعاسَةٍ لنا؟ ومَا هِيَ الرَّاحَةُ الحَقِيقِيَّةُ إذًا؟.

لَقَدِ انطَلَقَ Pascal مِن قناعَتِهِ بأنَّ خَوفًا كَبيرًا يَتملَّكُنا، الخَوفُ مِنَ الزّوالِ finitude، فلا نَعودُ مَوجُودِين. لِذا عندما يَكونُ الإنسانُ بِمُفرَدِهِ، يَكونُ في مُواجَهَةٍ مباشَرةٍ مَعَ الموت الآتي لا مَحالَة.

شَرَحَ Pascal أَنَّنا أُناسٌ ضُعَفَاء، وهَذا يُدخِلُنا في حَالَةِ تَضادٍ، بِحَيثُ نَهرُبُ بِاستِمرارٍ مِنَ الانفِراد. وأَردَفَ قائِلًا: "الصَّمتُ الأَبَديُّ الذي يَلُفُّ هذا الفَضاءَ اللّانِهائيَّ يُخيفُني[3]".

الحَلُّ عِندَهُ كَانَ "التَّرفيه" الّذي يُبعِدُنا عَنِ التَّعاسَةِ وَالقَلَق، ويُلهِينا عَنِ التَّفكيرِ بِالزَّوال، كَذَلِكَ السَّعيُ لِلحُصولِ عَلى مَجدٍ ما يُرَفِّهُ عَنِ الإنسان. لم يَستَثنِ Pascal أَحَدًا، فحتَّى المَلِكُ من دون التَّرفيهِ، هُوَ أَتعَسُ التُّعَسَاء.

لَم يَقصُدْ بِالتَّرفيهِ اللَّعِبَ فَقَط، بَل تَكَلَّمَ على المُطالَعَةِ، وَالقِيامِ بِالأبحَاث، وأَعمالِ الرَّحمَة. المُهِمُّ أن نُبعِدَ عَنّا هَذا القَلَق.

في السَّنواتِ الأخيرَةِ مِن حَياتِهِ، عِندَما مَرضَ وعانَى مِن أَوجَاعٍ مَريرَةٍ، وتَدَهوَرَت صِحَّتُه بِشَكلٍ كَبير، ودَخَلَ في حَالاتٍ عَصَبِيَّةٍ شَديدَة، كَتَبَ صَلاةً إلى اللهِ، كما ذَكَرت شَقيقَتُهُ، مِن أجلِ تَقبُّلِ الأَمراضِ، واستِخدامِها في مَسارِها الصَّحيح. كما أَتَت كَلماتُه ُالأخيرةُ: "المُهِمُّ ألّا يَتركَني اللهُ أبَدًا".

هَذا العَالِمُ الّذي جَمَعَ في شَخصِهِ الفَلسَفَةَ وعِلمَ الرِّياضِيّاتِ والفِيزياء، وحتَّى العلومَ الدّينيَّةَ المَسيحِيَّة، واعتُبِرَ أديبًا كبيرًا، عَاشَ التَّخبُّطَ بـ "الافتِراضات"، وحَوَت كِتاباتُهُ الدّينِيَّةُ الكَثيرَ مِنَ التّناقُضاتِ: الشَّكَّ والإيمَان، الأبديَّةَ والعَدَم، الرُّوحَ والمَادَّة، مُؤَكِّدًا أن لا جَوابَ دُونَ مُؤازَرَةِ التَّواضُعِ والنِّعمَة، لِيَخرُجَ بِخُلاصَةٍ عَن وُجُودِ الله، عُرِفَتْ بـ"رِهان باسكال Le Pari de Pascal".

مِمَّا لا شَكَّ فيهِ أَنَّ مَوتَ وَالِدَتِهِ، عِندَما كانَ في الثّالثة من العُمرِ، أَثَّر فيهِ كثيرًا. رَبَّاهُ والِدُهُ وعَلَّمَهُ، وكانَ رَجُلَ عِلمٍ وقَاضِيًا. استَطاعَ باسكال، وهو في سِنِّ التَّاسِعَةَ عَشرةَ، أن يَختَرِعَ أَوَّلَ آلَةٍ حاسِبَةٍ يَدَوِيَّة. ولم يَترَدَّدْ في تَطبيقِ "الحِسابِ" على اللهِ، فَطَرَحَ الاعتِقادَ بِوُجُودِ اللهِ كَجُزءٍ مِن عَملِيَّةِ حِسابِ "الرِّبحِ والخَسارة"، وبموجَبِ فرضيّات.

بِرأيِهِ، إنَّ العَقلانِيَّ يَختارُ الرِّبحَ، وبِالتَّالِي يَختارُ وُجُودَ اللهِ، سواءٌ أكانَ اللهُ مَوجُودًا أم لا. إذا لَم يَكُنِ اللهُ مَوجُودًا، فالمُؤمِنُ وغَيرُ المُؤمِنِ لا يُخاطِران بِأيِّ شَيءٍ تَقرِيبًا. أمّا إذا كانَ اللهُ مَوجُودًا، فَالمُؤمِنُ يَكسَبُ الجَنَّةَ، بَينَما يُسجَنُ غَيرُ المُؤمِنِ في الجَحِيمِ إلى الأَبَد.

كَثيرُونَ اعتَبرُوا افتِراضَهُ بِمَثابَةِ حَثٍّ على الإيمَانِ، بِخاصَّةٍ للمُشَكِّكينَ، ولَيسَ عَملِيَّةً مَبنِيَّةً على المَصلَحَةِ الشَّخصِيَّة وعلى الانتِهازِيَّة، بِخَاصَّةٍ أَنَّهُ حذَّرَ مِن أنَّ خِدَاعِ اللهِ -العَارِفِ بِكُلِّ شَيءٍ-، يؤَدِّي إلى الجَحِيم.

لا بُدَّ هُنا مِن القَولِ إنَّ Pascal يَعتَقِدُ بِحَتمِيَّةِ وُجُودِ اللهِ، واستِحَالَةِ البُعدِ عَنه، وقد أَنهى حَياتَهُ بِتَوزيعِ نِصفِ ثَروَتِهِ على الفُقَرَاء.

تَوقُ Pascal لِلمَعرِفَةِ كانَ كَبِيرًا جِدًّا، كيفَ لا وهُوَ النَّابِغَةُ الّذي بَرَعَ في الرّياضِيّاتِ مِن صِغَرِه، وأَحَبَّ التَّحدّي. لكِنَّهُ في المُقابِلِ أَعلَنَ أنَّ عَقلَ الإنسانِ عَاجِزٌ عَن فَهمِ أَسرارِ الكَون، وَالأُمُورِ الّتي تَتَعلَّقُ بِالوُجودِ والخَلقِ، والجَنَّةِ وجَهَنَّم، ومُكافَأةِ اللهِ والعِقاب، وغَيرِها.

نَعودُ إلى المِحورِ الأَساس، لِمَ هذا الخَوفُ الكَبيرُ عِندَ باسكال؟.

فَلنَتأمَّل هُنا في بَعضِ مَا قَالَه: عِندَما أَنظُرُ مدى حياتي القَصيرَ، الّذي يَمتَصُّه الخُلود، قَبلي وبَعدي، وَالمَساحَةَ الصَّغيرةَ الّتي أَملأُها، فَإنَّني أَراها غَارِقَةً في المَساحَةِ الهائِلَةِ التي أَتجاهَلُها، وَالتي تتجَاهَلُني. كَما أَشعُرُ بِالخَوفِ والدَّهشَةِ مِن رُؤيَةِ نَفسي هُنا وَلَيسَ هُناكَ، ولماذا هنا وليس هُناك، ولماذا الآنَ وليس في وقتٍ آخر. مَن وضَعني؟ تَرتيبٌ وتَنظيمٌ مَن؟ مَا هذا المكانُ؟ وهل هَذا الوقتُ مقدَّرٌ لي؟.

أمَّا أَجملُ استِنتاجاتِهِ فَهو: بِما أنَّ المَسيحيَّةَ لا تُلغي العَقلَ وَالعِلمَ، فَما الفَائِدَةُ مِنَ "المَعرِفَةِ" إن لَم تَصِلْ بِالإنسانِ إلى الارتِماءِ عندَ أَقدامِ الصَّليب؟.

هُنا أَنتَقِلُ إلى القِدّيسَةِ مَريمَ المَجدَلِيَّةِ الحامِلَةِ الطّيبَ والمُعادِلَةِ الرُّسُلَ، والّتي نُقيمُ تَذكارَها يَومَ ٢٢ تمّوز (أَمس). هَذِهِ المَرأةُ الّتي ارتَمَتْ عندَ أَقدامِ الصَّليبِ في الجُلجُلَةِ، وارتَمَت أَيضًا عندَ قَدَمَي النَّاهِضِ مِن بَينِ الأَموات، الرَّبِّ يَسوعَ المسيح[4]، وأدركت يقينًا أنَّ يسوعَ مَصدَرُ كُلِّ فَرحٍ ومُبَدِدُ كُلِّ قلقٍ وخَوف.

فَيسوعُ ارتَضى بِملءِ إرادَتِهِ أن يَدخُلَ تِلكَ الغُرفَةَ (القَبر) الّتي يَخافُها باسكال، ونَخافُها نحن، بينما توجّهت إليها المجدليّةُ لتلاقيَ َسيّدَ الحياة.

دَخَلَها يَسوعُ بِطَبيعَتِهِ البَشَرِيَّةِ المُتَّحِدَةِ بِطَبيعَتِهِ الإلَهِيَّة، مُنذُ أَن تَجَسَّد.

دَخَلَها يَسوعُ لِنَرتاحَ نَحن.

دَخَلَها لِيُقيمَنا مِن غُرفَةِ خَطايانا المُميتَةِ والقَاتِلَة.

دَخَلَها لِيَقولَ لَنا، لا تَخافُوا إلّا مِن عَدَمِ مُرَاجَعَةِ ذَواتِكُم، وتَمَسُّكِكُم بِالخَطِيئَةِ الوَحِيدَةِ الّتي تَجعلُكُم أَمواتًا.

هَذا مَا حَصَلَ مَعَ مَريمَ المَجدَلِيَّةِ التي أَخرَجَ مِنها الرَّبُّ سَبعَةَ شَياطِين[5].

خُلاصَةً، تَساءَلَ Pascal عن إمكانِيَّةِ عَيشِنا النَّعيمَ الأَبَديّ، ونَحنُ كَائناتٌ مَحدُودُة، إلّا إذا طرأَ عَلَينا تَحَوُّلٌ جَذرِيٌّ مُختَلِفٌ عَمَّا نَحنُ عَلَيهِ اليَوم. هَذا صَحيحٌ، التَّحوُّلُ هُوَ التَّوبَةُ. وسَأَلَ ماذا يُريدُ مِنَّا الرَّبُّ؟ معتقِدًا أنَّ المَسيحيَّةَ تَفرِضُ أن نَحيا للهِ وَحدَه. والجَوابُ هو: أن نَتقَدَّسَ ونُشارِكَ الرَّبَّ مَلكوتَه.

نِهايةً نقولُ، المُواجَهَةُ آتِيةٌ لا مفَرَّ مِنها، وَالتّلهي ليسَ الحَلَّ إطلاقًا مَهما سَمَا، وإيمانُنا يَجِب أن يَكونَ حَقِيقيًّا بِالإرَادَةِ والعَمَلِ والحَق.

أليسَ أَفضلَ أن يَطرُدَ الرَّبُّ شَياطِينَنا الآنَ، مِن أن نَنتَقِلَ أَبَدِيًّا إلى جَحيمِ الشّياطِينِ والأبَالِسَةِ في ظُلمَةٍ لا تَنتَهي؟.

إلى الرَّبِّ نَطلُب.

[1]. 1623-1662

[2]. « Tout le malheur des hommes vient de ne savoir pas demeurer en repos, dans une chambre. »

[3]. Le silence éternel de ces espaces infinis m'effraie

[4]. "وَفِيمَا هُمَا مُنْطَلِقَتَانِ (مَرْيَمُ الْمَجْدَلِيَّةُ وَمَرْيَمُ الأُخْرَى) لِتُخْبِرَا تَلاَمِيذَهُ إِذَا يَسُوعُ لاَقَاهُمَا وَقَالَ: «سَلاَمٌ لَكُمَا». فَتَقَدَّمَتَا وَأَمْسَكَتَا بِقَدَمَيْهِ

وَسَجَدَتَا لَهُ" (متى ٧:٢٨).

[5]. "بَعْضُ النِّسَاءِ كُنَّ قَدْ شُفِينَ مِنْ أَرْوَاحٍ شِرِّيرَةٍ وَأَمْرَاضٍ: مَرْيَمُ الَّتِي تُدْعَى الْمَجْدَلِيَّةَ الَّتِي خَرَجَ مِنْهَا سَبْعَةُ شَيَاطِينَ" (لوقا ٢:٨).