احتلت موجة تقسيم ​لبنان​، حيّزاً كبيراً من الكلام والمواقف في الآونة الاخيرة، وراجت بشكل كبير، فجأة ومن دون سابق انذار. بعض الظرفاء اعتبروا ان الامور اختلطت على اللبنانيين، وبأن المسألة تتعلق بالتقسيم على الارواح الشريرة وهو امر تعترف به الكنائس المسيحية. ورأى هؤلاء انه من هذا المنطق، فإن التقسيم جائز، لا بل واجب القيام به، كي يرتاح هذا البلد من الشياطين التي تقلق راحته يوماً بعد يوم.

وبعد تجاوز هذه النكتة، لا يبدو من مبرر سياسي او دبلوماسي يدفع الى الاعتقاد ان طرح مسألة تقسيم لبنان جدية، او تستأهل التفكير بها حالياً، فهي ستولد ميتة بأفضل الاحوال، لان المناخ المحلي والاقليمي والدولي لا يسمح بمثل هذه الطرائف السمجة التي تطغى سلبيّاتها على ايجابيّاتها. وفي تفكير مبدئي وبسيط ومن دون أي تعقيدات سيّاسية وتدخّلات دوليّة، كيف يمكن تقسيم بلد صغير في الاصل، ويحمل لاجئين ونازحين اكثر مما يحمل مواطنين لبنانيين، ويصارع الجميع على ابقائه متعدد ​الطوائف​ ومحطة تفاعل ديني وحضاري في ​الشرق الاوسط​؟ ان تجربة التقسيم القسري التي عاشها هذا البلد في سبعينات وثمانينات القرن الماضي، اثبتت بالادلة والحقائق انّه لا يمكن الابقاء على التقسيم الا في حال بقاء الحرب مشتعلة، وانه بعدها ومهما طالت الفترة، لا بد من العودة عن التقسيم الى الاندماج. واذا اراد البعض الحديث عن ان العالم عاد الى التوجّه التقسيمي من خلال ما تقوم به روسيا في دونيتسك ولوغانسك، فالامر مغاير تماماً لاّن الدب الابيض يخوض معركة عسكريّة لضمّهما وما استقلالهما سوى اندماج مع روسيا، وليس استقلاليّة لمناطق ضمن بلد واحد (فدراليّة).

لا شك ان ما حصل مع ​المطران موسى الحاج​، أجّج شهيّة الكلام عن التقسيم، ولكن الحماسة شيء والواقع شيء آخر، فأكثر المتحمّسين يدرك تماماً انه للوصول الى مثل هذا القرار اولاً، يجب اخذ موافقة دولية-اقليمية تتولّى "غض النظر" الدبلوماسي، والتمويل اللازم لخوض المواجهات للوصول الى التقسيم، وضخ اموال اضافيّة بعدها لتأمين حاجة المناطق المقسّمة (الاكتفاء الذاتي)، ومن ثمّ وضع القوانين اللازمة لكل منطقة وايجاد توليفة قابلة للحياة ترضي الجميع. والمعضلة الكبرى تكمن في هذه النقطة تحديداً، فلبنان ليس اولويّة على ايّ طاولة خارجيّة، وحتى لو كان كذلك، فليس هناك ايّ دولة من الدول الكبرى متحمّسة لتلقّف كرة النار هذه التي تشتعل اكثر بكثير من غيرها وبشكل سريع يحرق الاصابع. وتكثر التساؤلات البديهيّة عند الكلام عن تقسيم لبنان، ومنها على سبيل المثال لا الحصر، هل سيتمّ الحفاظ على الوجود المسيحي؟ واذا كان الجواب ايجاباً، اين سيتم وضعهم في ظلّ تقلّص اعدادهم وتنامي اعداد الطوائف الاخرى مع وجود ​النازحين​ واللاجئين، وهل ما كان صالحاً في السابق لا يزال يلقى قبولاً في الوقت الحالي؟ وهل من يضمن ان تقبل الاطراف الموجودة ضمن المنطقة المقسّمة الواحدة بسيطرة جهة على اخرى، ومن هي الجهة التي سيتمّ دعمها على حساب الاطراف الباقية، فيما سينتقل الاقتتال من مكان الى آخر في المنطقة نفسها، قبل الانتقال الى مواجهات المناطق بين بعضها؟ وهل سيكون هناك من قدرة بالفعل على تأمين المستلزمات الكافية لكل المناطق مع المرافئ والمرافق الحيوية اللازمة لتأمين الاكتفاء الذاتي؟.

ولن يصدق احد مقولة انّ التقسيم سيكون سلمياً وعقلانياً، لان احداً في لبنان لا يأخذ على عاتقه الترويج لمثل هذه الكذبة، فأيّ محاولة للفدراليّة او غيرها ليست سوى شرارة لاعلان الحرب بين الطوائف والمذاهب نفسها في البدء، ثم بينها وبين غيرها في المرحلة اللاحقة.

كذبة التقسيم غير واردة، اقلّه في المرحلة الراهنة الطويلة الامد، وليكن الكلام من اليوم وصاعداً عن التقسيم على الارواح الشرّيرة لطردها، علّها تحمل الحلّ الناجع للمآسي التي يعيشها اللبنانيون.