قبل ستة عشر عاماً، أقدم العدو الإسرائيلي، في الأيام الأولى لبدء العدوان على لبنان، على قصف معمل الجية الحراري لتوليد الكهرباء، ممّا أدى إلى إحتراق 45 ألف متر مكعب من مادة الفيول وتسرّب كمية أخرى، قدِّرت في حينها بما لا يقل عن 15 ألف متر مكعب، إنتشرت في مياه البحر مكوّنةً بقعة نفطية بلغت كثافتها 40 سم، وامتدت بعمق البحر مسافة تصل إلى 30 كلم، لتدفعها الرياح نحو الشمال ملوثة ما يقارب الــ 150 كيلومتراً من الساحل اللبناني، وصولاً إلى الساحل السوري شمالاً، وترسب كمية ضخمة من النفط في قاع البحر بجوار محطة الطاقة المستهدفة.

هذه الكمية المنسكبة نحو البحر، كان من شأنها خنق البيئة الحية التي تعيش في القاع، حسب تقارير الامم المتحدة، وقد يستحيل معالجة هذا الأثر في الطبيعة، الذي أدّى إلى قتل كل أنواع الطحالب واللافقريات في الأشهر اللاحقة لهذه الكارثة، ويبقى خطره قائماً في حال عدم إزالتها للسماح لهذه الكائنات الحية بالتوالد من جديد وإستعادة عافيتها. ولم تسجل في حينه تأثيرات مهمة على الطيور البحرية والثروة السمكية، مع ملاحظة نسبة تلوث عالية في الأسماك، مما حدا بدار النشر البريطانية المعروفة "أوكتوبوس" إلى أن تضيف هذه الكارثة إلى موسوعتها أكبر 501 كارثة مدمرة أصابت البشرية.

هي واحدة من مجموعة كوارث تسبب بها هذا العدوان، حيث أنَّ القصف اليومي، على مدار 33 يوماً من العدوان، أوقع العديد من الضحايا المدنيين شهداء وجرحى ونازحين، وأدّى أيضاً إلى تدمير البنى التحتية في لبنان تدميراً كبيراً، حيث تم إحصاء تدمير وتضرر ما يقارب 445 ألف متر مربّع من شبكات الطرقات، و92 جسراً ومعبراً، بالإضافة إلى تدمير وتضرر ما يقارب 130 ألف وحدة سكنية (حسب إحصاءات الهيئة العليا للإغاثة) مضافاً إليها شبكات تأمين المياه ومياه الصرف الصحي، حيث أصاب الدمار الكبير الضاحية الجنوبية لبيروت بشكلٍ أساسي، ومعها ما لايقل عن 155 قرية وبلدة جنوبية، وأماكن متفرقة من البقاع طالها التدمير والتخريب والأضرار الجسيمة.

الكارثة البيئية التي لحقت بالشواطىء اللبنانية والسورية، لاقت إهتماماً إقليميّاً ودوليّاً واسعاً، حيث أدرجت في البند 35 (أ) على جدول أعمال الجمعية العامة للأمم المتحدة، التي إنعقدت بتاريخ 20/12/2006 (محضر 6/2/2007 للدورة الحادية والستين)، وفيها أعربت الأمم المتحدة "عن بالغ قلقها إزاء الآثار الضارة الناجمة عن قيام القوات الجوية الاسرائيلية بتدمير خزانات النفط في الجية"... ورأت "أنَّ البقعة النفطية قد أحدثت تلوثاً شديداً بشواطئ لبنان، وأنَّ لها آثاراً خطيرة في الصحة البشرية والتنوع البيولوجي ومصائد الأسماك والسياحة"...

وأهم ما ورد في محضر الجلسة أن الجمعية العامة طلبت، في البند الثالث، من "حكومة اسرائيل"، "أن تتحمل المسؤولية عن تقديم التعويض الفوري والكافي إلى الحكومة اللبنانية عن تكاليف إصلاح الضرر البيئي الناجم عن التدمير، بما في ذلك إصلاح البيئة البحرية"، وعلى الرغم من من أهمية هذا القرار، لم تحظ هذه القضية بالمتابعة والإهتمام اللازمين.

في هذا السياق، لا ننسى أيضاً كارثة بيئية مضافة إلى سابقاتها، وهي إستهداف خزانات الوقود في مطار بيروت الدولي، حيث تضرّرت جرّاء ضربة مباشرة بتاريخ 13 تموز/يوليو 2006. وقدِّرت كمية الكيروسين التي إحترقت في تلك الخزانات بـ5 آلاف متر مكعّب، بقيت تشتعل لأيامٍ وليالٍ محدثة تلوّثاً سامّاً وقاتلاً في أجواء الضاحية الجنوبية والجبل والعاصمة بيروت.

كما ورُصِدَت آثار تلوّثٍ بيئي سام من قبل جهات طوعية محلية وليست رسمية (لم تعط الإهتمام الكافي) في العديد من المناطق، بسبب إستهداف وتدمير المئات من محولات الكهرباء، والتي يؤكّد خبراء بيئيّون، شاركوا في تلك الفترة في تقييم الآثار البيئية للحرب، أنَّ هذه المحولات القديمة تحتوي على مادة (بي سي بي) التي تنتج مادة الديوكسين المسرطنة عند احتراقها.

وقدرت مصادر بيئية متابعة أنَّ عدد المحولات المتضررة بـ725 محطة بين قديمة وجديدة، تحتوي العشرات منها على تلك المواد المسرطنة، يضاف إليها عشرات من محطات الوقود في قرى صور وبنت جبيل ومرجعيون وصولاً إلى بعلبك في البقاع.

أمام إنكشاف حجم الكوارث الحاصلة وتداعياتها البيئية المختلفة، من تلوّثٍ لمياه البحر والشواطىء، (قدَّرت تقارير وزارة البيئة الصادرة في شهر حزيران 2007 أنَّ حجم المخلفات الناجمة عن عمليات التنظيف والإزالة قد بلغ ما يقارب الف متر مكعب من الفيول و6,407 أمتار مكعبة من النفايات الصلبة الملوّثة بالنفط "الرمال والحصى والنفايات الملوثة")، يضاف إليها تلوّث المياه الجوفية وفقدان مساحات شاسعة من الغطاء الحرجي والنباتي جرّاء القصف المتعمّد، وأيضاً تلوّثِ الهواء بسبب الغبار الناتج عن إزالة ركام الأبنية المهدّمة والكميات الهائلة من الردميات، التي تم تجميعها في أماكن مختلفة ومنها شاطىء الأوزاعي مثالاً، يبقى السؤال: إلى متى تبقى هذه القضية مفتوحة ولا تعالج تداعياتها وأثارها على الأجيال القادمة، وفقاً للقانون الدولي الإنساني والمعاهدات الدولية ذات الصلة؟.

*إعلامي وناشط في دعم ومناصرة ضحايا الحرب وحقوق الأشخاص ذوي الإعاقة وفي مجال التوعية من مخاطر الألغام والقنابل العنقودية.