بُلوغُنا عيدِ رُقادِ السيّدَةِ العَذراءِ (١٥ آب)، هُوَ بُلوغُنا آخِرَ عيدٍ سَيّديّ[1] في السَّنةِ الطَّقسِيَّةِ[2] اللّيتُورجِيَّة. هذا مَعناهُ أنَّنا اجتَزنا كُلَّ الأعيادِ السيِّدِيَّةِ عَلى مَدارِ السَّنَةِ، بِالإضافَةِ إلى أَعيادِ القِدّيسِينَ وَأَعيادٍ كَنَسِيَّةٍ أُخرى.

قَد نَغرِفُ مِن هَذِهِ الأَعيادِ ونَغتَذي، وهذا مُبارَكٌ ومُفيدٌ جِدًّا، كَما يُمكِنُ ألّا نَأبَهَ بِها وهَذا مُؤسِفٌ جِدًّا، وقَد نَعرِفُ بِها ولا تَعنِينا، وهَذِهِ خَسارَةٌ كَبيرَة، كما قد نَجهَلُها بِالكُليَّة.

الأَسوأُ هُوَ الالتِصاقُ بِالدَّورَةِ اللّيتُورجِيَّةِ فَرّيسِيًّا، فتَغدو مُمَارَسَتُنا سَبيلاً للتَّباهي والانتِفاخ، عِوضَ أن تَكونَ اتِّضاعًا وَتَوبَةً ومُحاسَبَةً للذَّاتِ، ووِلادَةً جَديدَةً بِالرَّبِّ يَسوعَ المَسيحِ، الّذي يَمقُتُ الكِبرياءَ، ووَبَّخَ الفَرّيسِيّينَ أَشَدَّ تَوبيخٍ قائِلًا لَهم: "وَيْلٌ لَكُمْ أَيُّهَا الْكَتَبَةُ وَالْفَرِّيسِيُّونَ الْمُرَاؤُونَ!" (متى ٢٩:٢٣).

هِذِهِ الـ "وَيْلُ" هِي السَّابِعَةُ مِن ثَمانِيَةٍ ويلاتٍ يَذكُرُها الإنجِيليُّ مَتّى، في الإصحاحِ الثَّالِثِ والعِشرينَ مِن إنجِيلِهِ، والّتي كُلَّما قَرأتُها أَرتَجِفُ وأَصرُخُ: "يا ربّي يَسوعُ المسيح، إرحَمني أَنا الخَاطئ".

قَد يبدُو الحَلُّ بَسيطًا، ولكِنَّ تَطبيقَهُ يَتطلَّبُ جِهادًا حَقِيقيًّا، والتِزامًا صادِقًا، وَقَلبًا نَقِيًّا، ورُوحًا مُستَقِيمًا، كَما نُصَلِّي في المَزمورِ الخَمسين: "قَلْبًا نَقِيًّا اخْلُقْ فِيَّ يَا اللهُ، وَرُوحًا مُسْتَقِيمًا جَدِّدْ فِي دَاخِلِي".

هَذا ما كانَت عَلَيهِ العَذراءُ، كَيفَ لا وَهِيَ الّتي ارتَضَتْ، بِمِلءِ حُريَّتِها، أن تَكونَ أَمَةَ الرَّب. فَأتى رُقادُها وقِيامُ الرَّبِّ بِنَقلِها إلَيهِ، مِثالًا للبَشَرِيَّةِ جَمعَاءَ، وتَأكيدًا لِخَلاصِنا إن سَعَينا لَهُ بِصِدقٍ. وقَد أَدرَكَ المُؤمِنونَ أَهَمّيةَ وَالِدَةِ الإلهِ مُنذُ البِدايَة، وتَذكُرُ الليتُورجِيَّةُ وُجودَ عِيدٍ مَريميٍّ عَظيمٍ كانَ يُقامُ في الخَامِسَ عَشرَ مِن شَهرِ آبَ، في أُورَشَليمَ مُنذُ القُرونِ الأُولى للمَسيحِيَّة.

أَيقُونَةُ رُقادِ السيِّدَةِ العَذراءِ جَميلَةٌ جِدًّا، وبِالرُّغمِ مِن تَعَدُّدِ الأشخَاصِ فيها، إلّا أَنَّ المَشهَدَ الأَساسِيَّ مَوجُودٌ في وَسَطِها، وهُوَ الرَّبُّ الوَاقِفُ حامِلًا رُوحَ العَذرَاءِ النَّقِيَّةَ بهيئةِ طِفلٍ ملفوفٍ بأقمطةٍ بيضاء، بينَما جَسدُهَا مُضَّجِع أَمامَه. فتَقاطُعُ جَسدِ مَريمَ مَعَ الرَّبِّ الواقِفِ في الوَسَطِ يُشكِّلُ صَليبًا، الّذي عليهِ غَلَبَ الرّبُ الموتَ، لِذا هِيَ أيقُونَةُ "حياة".

التَّلامِيذُ وبولس الرسول الّذينَ أَتَوا مِن كُلِّ أَقطارِ المَسكُونَةِ يَتَحَلَّقُونَ حَولَها، وَالعَالَمُ السَّماويُّ المُتَمَثِّلُ بِالمَلائِكَةِ الأَطهارِ، حاضِرٌ أَيضًا. كما يَلفِتُنا كاهِنٌ يَهُودِيٌّ أَمامَ جُثمانِها يُحاوِلُ لَمسَهُ لِيُنَجِّسَهُ، فَيُعالِجُهُ عَلى الفَورِ مَلاكٌ بِسَيفِهِ قاطِعًا له يَدَيهِ الاثنَتَين.

قد تَتغَيَّرُ بَعضُ التَّفاصيلِ في أَيقُوناتِ رُقادِ السيّدَة، إلّا أَنَّ المَشهدَ الأَساسيَّ يَبقَى ذاتَه.

هَذِهِ هِيَ الأَبعادُ الظَّاهِرَةُ في أَيقُونَةِ الرُّقادِ، أَمَّا في العُمقِ فَهُناكَ بُعدانِ هَامَّان جِدًّا.

الأَوَّلُ انتِصارُ الحَياةِ عَلى المَوت. فَالمَوتُ الّذي يَخشاهُ البَشَرُ بَاتَ مَعَ المَسيحِ يَسوعَ، رُقادًا وانتِقَالًا إلى السَّماءِ، هَذا إذا عَشِقْنا الرَّبَّ وعَمِلنا بِوَصَايَاه. لِهذا تُصوَّرُ أَيقُونَةُ رُقادِ السيّدَةِ قُربَ البابِ الّذي يُغادِرُ منهُ المُؤمِنونَ الكَنيسَةَ (الحائِطِ الغَربيّ) لِتَذكيرِنا بِأَنَّ المَوتَ الجَسدِيَّ هُوَ رُقاد.

أَمَّا البُعدُ الثَّاني فهو الحَياةُ السَّامِيةُ الحَقيقِيَّة. يَمدَحُ القِدّيسُ يُوحَنَّا الدِّمَشقِيُّ (ق٧) العَذرَاءَ فَيقُول: "بِخُروجِكِ مِنَ الجَسَدِ والتُّرابيَّةِ المَحدُودَةِ، دَخَلتِ أَمداءً لا تَعرِفُ حُدُودًا ولا يُدرِكُها فناء".

هَذا مَا نَحنُ مَدعُوونَ إلَيهِ جَمِيعًا: السَّماءُ لا التُّراب، الخُروجُ مِن عُبُودِيَّةِ الأنا التُّرابِيَّةِ المُمِيتَةِ، إلى حُريَّةِ أَبناءِ اللهِ المُحيية، وإلّا أَمضَينا حَياتَنا غَافِلينَ الكَرامَةَ الإلَهِيَّةَ التي خَلَقَنا اللهُ عَلَيها، وَجاهِلِينَ طَعمَ المَلكوتِ السَّماوِيّ في عالَمٍ يَتَخَبَّطُ بَينَ الفَوضى والشَّطَط.

قَرأتُ، مُنذُ فَترَةٍ، مَقالَةً حَدِيثَةً على الصَّفحةِ الإلكترُونِيَّةِ je pense[3]، تَقولُ إنَّ عالَمَنا اليَومَ في فَوضَى عارِمَةِ وتَشَتُّتٍ، وإنَّهُ يَعيشُ المُصطَلَحَ الكِيميائيّ

Entropie، الّذي يَعني عَدَمَ التَنظيمِ Désorganisation . هذا المُصطَلَحُ يُونَانِيُّ الأَصلِ وَيَعني التَّحوّل Transformation. لِهَذا أَيضًا يُشيرُ المُصطَلَحُ عِلمِيًّا وفَلسَفِيًّا وفِي كُلِّ المَيادِينِ، إلى تَحوُّلاتٍ سيّئةٍ وغَيرِ مُتَوَقَّعَةِ النَّتائِج، إذ هِيَ دَائمةُ التَّشتُّت.

كَما تَشرَحُ المَقالَةُ أَنَّ بِدُخُولِ هَذا الأَمرِ إنسانًا أو حضارةً ما، تَكونُ النَّتيجةُ المَوتَ. L’entropie c’est la

mort، وأَنَّ كُلَّ وَقتٍ يَمُرُّ دُونَ إصلاحِ الأَمرِ، يَعمَلُ للمَوت. وتُكمِلُ أَنَّ الحَياةَ هِيَ في صِراعٍ دَائِمٍ ضِدَّ الEntropie، لأَنَّ أَساسَ الحَياةِ مُنَظَّمٌ ومُرَتَّب.

هَذا الكَلامُ لاهُوتِيٌّ بِامتِياز. أوّلًا، إلهنا إله ترتيب، وثانيًا، هَذا هُو حَالُ عَالَمِنا اليَومَ، ومَعَ كُلِّ شُروقِ شَمسٍ يُطِلُّ عَلَينا انحِلالٌ أخلاقِيٌّ وإنسَانِيٌّ كَارِثيٌّ جَديد. فَبِالرُّغمِ مِنَ التَّطوُّرِ التّكنُولُوجيّ المَهُولِ، نَعيشُ أَزمَةً إنسَانِيَّةً عَالَمِيَّة. هُنا يَتَجَلَّى أَمامَنا قَولُ الرَّب: "مَاذَا يَنْتَفِعُ الإِنْسَانُ لَوْ رَبِحَ الْعَالَمَ كُلَّهُ وَخَسِرَ نَفْسَهُ؟" (مرقس ٣٦:٨).

الجَدِيرُ بالذِّكرِ أَنَّ العِلمَ يُبَرهِنُ صَوابَ ما تُنادِي بِهِ المَسيحِيَّةُ، وأَنَّها عِلمُ العُلُومِ وفَنُّ الفُنون. وَكَثِيرًا مَا تَأتي جُهودٌ عِلمِيَّةٌ جَبَّارَةٌ لِتَنبيهِنا مِن أُمورٍ سَبَقَ ونَبَّهَنا عليها يَسوعُ، والآبَاءُ القِدّيسُونَ الّذينَ أَدركُوا "الحَقيقَةَ" بِالرُّوحِ القُدُس.

لِذا نَحنُ نَقُولُها علانيةً، إنَّ الأَزمَةَ العَالَمِيَّةَ أَبعَدُ بِكَثير مِن أَن تَكُونَ أَخلاقِيَّةً، أَو قَانُونِيَّة، أَو وَطَنِيَّة، أَو اجتِمَاعِيَّة، أو عاطِفِيَّة، أَو تَربَوِيَّة، أَو سِياسِيَّة، أو مَذهَبِيّة... هِي أَزمَةُ الوُجُودِ الحَقِيقيّ، أَزمَةُ عَدَمِ العَيشِ في نُورِ الإنجِيلِ، أي العيشُ بِخِلافِ مَا عَاشَتهُ وَالِدَةُ الإلَه. وعِندَما نَقُولُ الإنجيل، نَعني الرَّبَّ يَسوعَ المَسيحَ، الّذي لا مَثيلَ لِسِيرَتِهِ وأَعمالِهِ وتَعاليمِه.

خُلاصَةً، يَقُولُ العَالِمُ المُعاصِرُ Basarab Nicolescu، الرُّومانِيُّ الجِنسِيَّةِ Romanian، وَالحائِزُ على جَوائِزَ عَالَمِيَّةٍ، إنَّ مَعرِفَةَ الوُجودِ الحَقِيقيّ للحَياةِ هِيَ "ثَورَةُ الذَّكاءِ Révolution de l'intelligence ". كما يَذكُرُ في مُدَوَّنَتِه: "Théorèmes poétiques النَّظريَّاتُ الشِّعرِيَّة"، إنَّ عَظَمَةَ العِلمِ تَكمُنُ في حُدُودِهِ (مَحدُودِيَّتِهِ)، وَمِيزَةَ هَذِهِ المَحدُودِيَّةِ تَقديمُ لَمحَةٍ عَنِ اللّامَحدُود. وَأيضًا يَقولَ إنَّ "العِلمَ وَحدَهُ وَالعقلَ وحدَهُ لَوحَةٌ إعلانِيَّةٌ للحَدَاثَةِ الإبَاحِيَّة."

بِالمُقابِلِ يَقُولُ القِدّيسُ مَكسيمُوسُ المُعتَرِف (+٦٦٢م): "الإيمَانُ شَرقَطَةٌ في الدِّمَاغ"، لأَنَّ مَعرِفَةَ اللهِ وتَدبِيرَهُ الخَلاصِيّ هما قِمَّةُ الحِكمَةِ والذَّكاءِ وَالعَقلِ المُستَنِير.

نِهايَةً، تَدعُونا العَذراءُ إلى عِشقِ اللهِ الّذي هُوَ حَياةٌ مُستَمِرَّة، وتَنتهي حَياتُنا لا بالمَوتِ بَل بالرُّقادِ والانتِقالِ إلى السَّماءِ.

إلى الرَّبِّ نَطلُب.

[1] . كلمة سيّدي بالنسبة إلى السيّد الرب يسوع المسيح لأنّه هو المحور. فحتّى لو كان العيد والدي أي مريمي يسمّى سيّديّ.. فكل أعياد والدة الإله (ميلادها - دخولها الهيكل – البشارة – رقادها) هي مرتبطة بالمسيح وهو أساسها، ولهذا نُعيّد لها.

[2]. تبدأ السنة الكنسيّة الليتورجيّة في ١ أيلول، وأوّل عيد سيّدي فيها هو ميلاد العذراء مريم في الثامن منه.

[3]. https://www.jepense.org/