يُطِلُّ علَينا تَذكارُ قَطعِ رَأسِ القِدّيسِ يُوحنَّا المَعمَدانِ، في اليَومِ التَّاسعِ وَالعِشرينَ مِن شَهرِ آب.

حَادِثَةُ قَتلِهِ على يَدِ المَلِكِ هِيرودُسَ أَنتيبّاس، مَذكُورَةٌ في الأَناجيلِ الثَّلاثَةِ[1] الأُولى، مَتّى ومَرقُس ولُوقَا، وذَلِكَ أَنَّ القِدّيسَ كانَ يُوَبِّخُ المَلِكَ "لِسَبَبِ جَمِيعِ الشُّرُورِ الَّتِي كَانَ هِيرُودُسُ يَفْعَلُهَا" (لوقا ١٩:٣)، دُونَ مُحابَاةٍ أو مُوارَبَةٍ، ولم يَكُن يَخافُ إطلاقًا قَولَ الحَقِّ لِهِيرودُسَ بُغيَةَ الحِفاظِ على نَفسِه، بل قَال لَه عَلَنًا: "لا يَحِلُّ أَنْ تَكُونَ لَكَ امْرَأَةُ أَخِيكَ"(مرقس ١٨:٦).

قَتَلَ هِيرُودُسُ يُوحنَّا، مَعَ أنَّهُ كانَ يَعرِفُ جَيّدًا أنَّهُ رَجُلٌ بَارٌّ وَقِدِّيسٌ، وَكَانَ يَهابُهُ ويَسمَعُهُ بِسُرور(مرقس ٢٠:٦).

تَغلَّبَتْ كِبرياءُ هِيرودُسَ وشَهوتُهُ عَلَيهِ، فباعَ يوحنَّا بِرَقصَةٍ مِن صَالُومي، ابنَةِ عَشيقَتِهِ هِيرودِيّا وزَوجَتِهِ، التي طَلَبَت مِن ابنتِها أن تَطلُبَ مِنَ المَلِكِ رَأسَ القِدّيس، وهَكَذا كان[2].

ما وَرَدَ أعلاهُ يُلَخِّصُ مَواقِفَ الإنسانِ في هَذِهِ الحَياة. كَثيرًا ما نَعرِفُ الحَقَّ ونَتَجاهَلُهُ لِخِدمَةِ مَصالِحِنا الشَّخصِيَّةِ، فنقُومُ بِأعمالٍ مُشينَةٍ وشِرّيرَةٍ، مُتَعلِّلينَ بِعِلَلِ الخَطايا. هذا مَا نُصَلّيهِ في صَلاةِ الغُرُوب: "لا تُمِلْ قَلبي إلى كَلامِ الشَّرِّ، فيَتَعَلَّلَ بِعِلَلِ الخَطايا. مَعَ النَّاسِ العَامِلينَ الإثمَ[3]".

الإنسَانُ كائِنٌ عَاقِلٌ، وهُوَ يَعرِفُ الصَّالِحَ تَمامَ المَعرِفَة، ولَكِنَّهُ يَقومُ بِاختِيارِ الطَّالِحِ لأَنَّ قَلبَهُ أَظلَمَ، كمَا نَقرأُ في إنجِيلِ يُوحَنّا: "وَهذِهِ هِيَ الدَّيْنُونَةُ: إِنَّ النُّورَ قَدْ جَاءَ إِلَى الْعَالَمِ، وَأَحَبَّ النَّاسُ الظُّلْمَةَ أَكْثَرَ مِنَ النُّورِ، لأَنَّ أَعْمَالَهُمْ كَانَتْ شِرِّيرَةً". (يوحنا ١٩:٣). لِذا يُنادِينا الرَّبُّ دَائِمًا: "الْيَوْمَ إِنْ سَمِعْتُمْ صَوْتَهُ، فَلاَ تُقَسُّوا قُلُوبَكُمْ[4]". وكُلُّ لَحظَةٍ هِيَ اليَوم.

كمَا لا بُدَّ مِنَ القَولِ إنَّ إعلانَ الحَقِّ والعَمَلَ على تَحقِيقِهِ، ورَفضَ البَاطِلِ، كُلُّها أَعمالٌ شُجاعَةٌ وجَريئةٌ، وعَكسُها الجُبنُ والمُوارَبَة. هَذا مَا مَيَّزَ القِدّيسَ يُوحَنَّا المَعمَدانِ، الّذي كانَ صَوْتَ صَارِخٍ فِي الْبَرِّيَّةِ، ودَعَا النَّاسَ لِيُعِدُّوا طَرِيقَ الرَّبِّ، ويَصْنَعُوا سُبُلَهُ مُسْتَقِيمَة (مرقس٣:١)، دُونَ أيّ اعوِجَاج. وإذا سَأَلنا مَا السَّبيلُ إلى ذَلِكَ، يُجِيبُنا سِفرُ الأمثَال: "يَا ابْنِي أَعْطِنِي قَلْبَكَ، وَلْتُلاَحِظْ عَيْنَاكَ طُرُقِي." (أم ٢٦:٢٣).

هُنا نَكونُ قد وَصَلنا إلى العُمقِ: "القَلبُ ومَكنُوناتُه"، والمَقصُودُ بِالقَلبِ أَفكارُ المَرءِ ورَغباتُهُ وشَهواتُه، وما يَعبُدُهُ ويَميلُ إلَيهِ، وما يَسعَى لِتَحقِيقِه.

هَذا مَا يُريدُهُ الرَّبُّ مِنَّا: "القَلبُ" كَمَا قَالَ لِيَشوعَ بنِ نُونَ: "كُنْ مُتَشَدِّدًا، وَتَشَجَّعْ جِدًّا لِكَيْ تَتَحَفَّظَ لِلْعَمَلِ حَسَبَ كُلِّ الشَّرِيعَةِ. لاَ تَمِلْ عَنْهَا يَمِينًا وَلاَ شِمَالًا لِكَيْ تُفْلِحَ حَيْثُمَا تَذْهَبُ" (يشوع ٧:١).

ما سَبَقَ يَجعَلُني أَتَأمَّلُ كَلِمَةَ "الشَّجاعَة Le Courage". هِي تَأتي في اللُّغَةِ اللّاتِينِيَّةِ مِنَ القَلبِ "cor"، يُضَافُ إليها "age" كلاحِقَةsuffixe .

الارتباطُ ما بَينَ القَلبِ وَالشَّجَاعَةِ وَثيقٌ جِدًّا. فَالمَسيحِيُّ إنسَانٌ شُجاعٌ، ومِثالُهُ الأَعلى مَن مَاتَ عَلى الصَّليبِ طَوعًا بِكُلِّ شَجَاعَةٍ، أَلا وَهُوَ الرَّبُّ يَسوعُ المَسيح.

إذا بَحَثنا في تَارِيخِ الشُّعوبِ ومُعتَقَداتِهِم، نَجِدُ أنَّ الشَّجَاعَةَ في الحَضارَاتِ القَدِيمَةِ كانَت إحدَى الفَضائِلِ الأَساسِيَّةِ للأَبطَال Héros. وكَانَت بِمَثابَةِ قُوَّةِ الرُّوحِ وَالثَّباتِ، وشَكَّلَت مَعَ الحِكمَةِ والاعتِدَالِ والعَدَالَةِ، الفَضائِلَ الأَربَعَ الأَساسِيَّة[5]. ومَا أجمَلَ مَقولَةَ Confucius[6]: "الشَّجاعَةُ هِيَ فِعلُ الصَّوابِ"، وهِيَ قِيمَةٌ أَخلاقِيَّةٌ عَالِيَة.

يَلفتُني هُنا قَولُ Albert Einstein: "القِيمَةُ الأَخلاقِيَّةُ لا يُمكِنُ أن تَحُلَّ مَحلَّها قِيمَةُ الذَّكاءِ، وسَأُضيفُ: الحَمدُ لله!". قَولُهُ هذا خَيرُ جَوابٍ لِمَن يَضَعُ العِلمَ في تَضادٍ مَعَ الإيمَان.

مَا هُوَ مُؤسِفٌ حَقًا أَنَّ الشَّجاعَةَ المُترافِقَةَ مَعَ العَدلِ وَالحَقِّ، أَصبَحَت فَضِيلَةً نادِرَة، بِخَاصَّةٍ أَنَّها غَيرُ مُنفَصِلَةٍ عَن الثَّبَاتِ في المَواقِفِ، وبَذلِ الذَّاتِ مِن أَجلِ الآخَرِينَ Altruisme. المُؤسِفُ أَكثَرَ أَنَّهُ بَاتَ يُوصَفُ بِالشُّجعانِ أُناسٌ مَجبولين بِالجُبنِ والسُّوءِ مِن الرّأسِ إلى أَخمَصِ القَدَمَين.

بالعَودَةِ إلى القِدّيسِ يُوحنَّا المَعمَدَانِ، فَكُلُّ مَا فَعَلَهُ كانَ مِن أَجلِ التَّدبيرِ الخَلاصِيّ الّذي تَمَّمَهُ الرَّبُّ للبَشَرِ، ولَيسَ مِن أَجلِ مَجدِهِ الخَاص، ومَا جَذَبَ النَّاسَ إلَيهِ أَكثَر مُطابَقَةُ أَفعالِه لأَقوالِه.

لُقِّبَ يوحنّا بـِ"الصَّابِغ"، لأنَّهُ عَمّدَ المَسيحَ أَي صَبَغَه[7]، ولُقِّبَ بـِ "السَّابِق" لأنَّهُ كانَ خَاتِمَةَ الأنبِياءِ الّذينَ سَبَقُوا أن تَكَلَّمُوا عَلى مَجيءِ الرَّبِّ، ولُقِّبَ بـ"ملاكِ الصَّحراءِ"، تَحقِيقًا لِنُبُوءَةِ ملاخي(القرن ٥ ق. م) عَنِ المَلاكِ الّذي يُهَيِّئُ الطَّرِيقَ أَمَام المُخَلِّص(ملاخي ١:٣).

خُلاصَة، مَعَ القِدّيسِ يُوحَنَّا المَعمَدانِ العَظيمِ، الّذي له سِتَّةُ أَعيادٍ على مَدارِ السَّنةِ[8]، يَدعُونَا الرَّبُّ أن نَكونَ شُجعَانًا بِالحَقِّ والحِكمَةِ وَالعَدلِ، كُلٌّ حَسبَ مَسؤولِيَّتِهِ، وألّا نَخشى الشَّرَّ لأنَّهُ مَهزُومٌ مَهمَا طالَ باعُه. فلا يَغِيبَنَّ عن بَالِ أَحَدٍ مَصيرُ فاعِلي الإثم، "سِرَاجُ الأَثَمَةِ يَنْطَفِئُ[9]". هِيرودُسُ، انتَهى مَخلُوعًا عَن عَرشِهِ، ومَنفِيًّا مَرذُولًا مَعَ زَوجَتِهِ، وصالومي أَنهَت حياتَها بِيَدِها.

خِتامًا، يَكتُبُ بُطرُسُ الرَّسولُ: "إِنْ تَأَلَّمْتُمْ مِنْ أَجْلِ الْبِرِّ، فَطُوبَاكُم[10]"، فأَعطِنا يا رَبُّ أن نَكونَ شُجعَانًا من أجلِ الحَقّ.

إلى الرَّبِّ نَطلُب.

[1]. متّى (١:١٤-١٢) ومرقس (‏١٤:٦-٢٩) ولوقا (٧:٩-٩).

[2]. مرقس ١٧:١-٢٨.

[3]. "لاَ تُمِلْ قَلْبِي إِلَى أَمْرٍ رَدِيءٍ، لأَتَعَلَّلَ بِعِلَلِ الشَّرِّ مَعَ أُنَاسٍ فَاعِلِي إِثْمٍ، وَلاَ آكُلْ مِنْ نَفَائِسِهِمْ." (مزمور ٤:١٤١)

[4]. مزمور ٧:٩٥-٨ / عبرانيين ٣: ١٥.

[5]. أفلاطون Le Lachès ٤٢٨-٣٤٧ ق م

[6]. فيلسوف صيني٥٥١-٤٧٩.

[7]. ترجمة للفعل اليوناني Baptiser/ Baptízō. هذا ما قاله يسوع لابني زبدة بشأن طلبهما الجلوس عن يمينه وعن يساره «لَسْتُمَا تَعْلَمَانِ مَا تَطْلُبَانِ. أَتَسْتَطِيعَانِ أَنْ تَشْرَبَا الْكَأْسَ الَّتِي سَوْفَ أَشْرَبُهَا أَنَا، وَأَنْ تَصْطَبِغَا بِالصِّبْغَةِ الَّتِي أَصْطَبغُ بِهَا أَنَا؟» (مت٢٢:٢٠). إذ الإصطباغ مرتبط بالصلب. نحن نموت ونقوم مع المسيح.

[8]. مولده في ٢٤ حزيران، قطع رأسه في ٢٩ آب، الحبل به في ٢٣ أيلول، عيده الجامع في ٧ كانون الثاني، وجود أوّل وثاني لهامته في ٢٤ شباط، تذكار ثالث لوجود هامته في ٢٥ آيار.

[9]. الأمثال ٢٠:٢٤.

[10]. ١بطرس ١٤:٣.