كُلَّمَا نَظَرتُ إلى أيقُونَةِ القِدِّيسِ "مَامَا"، التي يَظهَرُ فيها القِدِّيسُ مُمتَطِيًا أسَدًا وحَامِلًا بِيَدَيهِ حَمَلًا، يَخَالُ إليَّ أَسمَعُ إشعياء النبيَّ يَقولُ مَا أعلَنَهُ الرَّبُ لَهُ: "الذِّئبُ وَالحَمَلُ يَرْعَيَانِ مَعًا." (إشعياء ٢٥:٦٥).

لَيسَ القِدِّيسُ "مَامَا" الوَحِيدَ الذّي يُصَوَّرُ مَع حَيوانٍ مُفتَرِس، بَل هُناكَ آخَرونَ كَالقِدِّيسِ جَراسِيموس الأُردُنيّ (ق ٥) مَع أسَدٍ ضَخمٍ، والقِدِّيسِ سيرافيم ساروفسكي (ق ١٩) مَع دُبٍّ روسيٍّ شَرِس. وفي تاريخٍ الكنيسةِ قِصَصٌ عَديدةٌ شيّقةٌ لِقدِّيسينَ وقِدِّيسَاتٍ مَع حَيَواناتٍ مُتَوَحِّشَةٍ وأفاعيَ سَامَةٍ حَدَثَت بِطُرُقٍ عَجَائِبيَّة.

القِدِّيسُ "مَامَا" الذي عَيَّدنَا لَهُ فِي الثَانِي مِن شَهرِ أَيلُول (تَقويم غَربِي) هُوَ مِن القَرنِ الثَّالثِ المِيلادِيّ، وَمَعرُوفٌ جِدًّا فِي بِلادِنَا، مِن أقصَى الشَّمالِ إلى أقصَى الجَنُوب. فَفِي بَلدَةِ إِهدن في قَضاءِ زْغَرْتا (الزاوية)، وَعَلى ارتِفاعِ ١٥٠٠م تَقومُ أقدَمُ كَنيسَةٍ مارونِيَّةٍ لِلقِدّيس "مَامَا" في لُبنان، تَعودُ إِلى العامِ ٧٤٩م[1]، بُنِيَتْ عَلى أَنْقاضِ هَيْكَلٍ وَثَنِيّ. كما جرتِ العادَةُ في كَفَرْحاتا – زْغَرْتا أَن يَقومَ كُلُّ عروسَين بِزِيارَةِ كَنيسَةِ مار مَامَا في القَرْيَةِ، للتَّبرُكِ مِنَ القَدّيسِ ليُوَفَّقا في زواجِهِما.

لِهَذا القِدّيسِ مَكانَةٌ هامَّةٌ في الكَنيسَةِ الأُرْثوذُكسِيَّة[2]، وفي بَلادِنا عِدَّةُ كَنائِسَ أُرْثوذُكْسِيَّة عَلى اسْمِهِ: في ﻛَﻔَﺮْﺣﺎﺗـا (البَتْرون)، وَكَفَرْصارون (الكورَة)، وَالمُنْصِف (جُبَيْل)، وَبسْكِنْتا (المَتِن)، وَدَيْر مِيماس (مَرْجِعْيون).

مِن بين هذهِ الأماكنِ المُقَدَّسَةِ يِستَوقِفُنَا دَيرُ القِدِّيس "مَامَا" في دَيْر مِيماس بِشكلٍ لافت، فقد تَأسَّسَ فِي العامِ ١٤٠٤م على يدِ الأمِّ المُتَوَّحِدَة "مَامَا" التي التَّفَت حَولَها ثَماني راهباتٍ مِن أبناءِ المِنطَقَة. إستَمَرِّت حَياةُ الرَّهبَنَةِ في الدّير ١٢٠ عامًا، لتَتَوَقّفَ نَتِيجةَ الاحتلالِ التُّركِيّ لِبلادِنَا.

شَكّلَ هذا الدَّيرُ مِحَوَرًا هامًا في مُحيطِه، وأخَذَتِ القَريَةُ اسمَهَا مِنه. فَهُوَ شُيِّدَ على تَلَّةٍ تُحِيطُ بِها أشجارُ الزَّيتون، ونَمَتِ القَريَةُ حَولَه، وإلى اليومِ يَقومُ اقتصادُ القَريَةُ على الزّيتونِ ومَنتوجِه. تَحتَفِلُ دَيْر مِيماس بعيدِ القدّيسِ "مَامَا" في ١٥ أيلول (تقويم شرقي).

فِي سنةِ ٢٠٠٦ م دُمِّرَ الدَيْرُ بِشكلٍ كَاملٍ مِن جَرّاءِ العُدوانِ الإسرائيليّ، وأُعيدَ بَناؤُه فِي نِيسان ٢٠٠٨ على يَدِ أميرِ قَطَر، لِيُعادَ افتتاحُه في ٣١ تَمّوز ٢٠١٠ بِحضورِ الأميرِ وعَائِلَتِه، وَوَفدٍ مِن دولةِ قَطَر، ورئيسِ الجمهوريّةِ اللبنانيّةِ ورئيسِ مَجلِسِ النُوّابِ مَع وَفدٍ حُكوميٍّ رَفِيع. ألا نُقولُ إنَّ الرُّوحَ يَهِبُ حُيثُ يَشَاء (يوحنا ٨:٣).

مَا يُمَيِّزُ الدَيْرَ أنَّهُ مَتحَفٌ لـ٣٧ فُسَيفَسَاءَ، تُمَثِّلُ نُبُوءَاتِ العَهدِ القَديمِ عَن الرَّبِ يسوعِ المَسيح، وأحداثًا إنجيليّةً مِنَ العَهدِ الجديدِ بالإضَافةِ إلى والدِةِ الإلَهِ والأَقمارِ الثَّلاثة. الفُسَيفَساء فَي الدَّيرِ رَائِعة وتَخطِفُ الأنظار، وتُدخِلُنا إلى عُمقِ ما تُمَثِلُه(تقارب الـ ٧ أمتار طول و٦ أمتار عرض).

المَحَطَّةُ الأولى فِيهِ هيَ العبُورُ مِن المَوتِ إلى الحَياة، إذ قَبلَ بُلوغِ الدَّيرِ مُباشرةً، تُوجَدُ المَدافنُ الخاصّةُ بِه، فَعَن يَمينِ المَدخَلِ فُسَيفَسَاءُ لِلقِدِّيسِ صيصوي (ق ٤)، وعَن يَسارِهِ فُسَيفَسَاءُ قِياميَّةٌ لِرُؤيَا حَزقيال النبيّ (حزقيال ٣٧).

القِدِّيسُ صيصوي يُذَكِّرُنَا بِمَا قَالَهُ إبراهيمُ قَبلَ أن يَفنِيَ الرَّبُ سَدُومَ وَعَمُورَةَ: "أنَا تُرَابٌ وَرَمَادٌ." (تك ٢٧:١٨)، ويُؤكِّدُ أنَّنَا كُلَّنا نَتَساوَى في القَبرِ مَهمَا علا مَقَامُنا، ويَدعُونا للعَمَلِ للحَياةِ الأبدِيَّة، أمَّا نُبُوءةُ حَزقيال هَذِهِ فنَقرَأهُا في الاُسبوعِ العَظيم، لأنَّها تتكَلَّمُ على عَودَةِ الحَياةِ إلى العِظامِ اليَابِسَة: "دَخَلَ فِيهِمِ الرُّوحُ، فَحَيُوا وَقَامُوا عَلَى أَقدَامِهِمْ" (حَزقيال ١٠:٣٧).

يَكتَمِلُ هذا المَشَهدُ القِياميُّ بِوصولِنا إلى الدَّير، حَيثُ تَستَقبِلُنا فُسيفَساءُ عن إقامةِ لَعازرَ مِن بينِ الأَموات، مَعَ كلماتِ نشيدِ إفرَحِي يا بيتَ عنيا القياميّ، منها: "إفرَحِي يا بَيتَ عَنيا نَحوَكِ وافَى الإِله، مَن بِهِ الأمواتُ تَحيا كَيفَ لا؟ وهُوَ الحياة". مِن ثَمَّ فُسيفَساءُ تِلو الأُخرى، مِن بَينِها نُزولُ الرَّبِ إلى الجَحيم (القِيامة)، ورُقادُ والِدَةِ الإله. كُلُّ هذا لِيَقولَ إن لا مَوتَ في المَسيحِيَّةِ بَل رُقادٌ وانتِقال.

بالعَودَةِ إلى بِدايةِ المَقالَةِ، والاستِشهادِ بِإشعياءَ النَّبِيّ، يَقولُ الرَّبُ في الاصحَاحِ ذاتِه: "هأَنَذَا خَالِقٌ سَمَاوَاتٍ جَدِيدَةً وَأَرْضًا جَدِيدَةً"(إشعياء ١٧:٦٥). هَذِهِ الحَالَةُ الفِردَوسِيَّةُ هي المُشتَهى، وتَبدأُ مِن هنا، مَعَ اللهِ والآخَرِ وذَواتِنا، وكُلِّ ما يُحيطُ بِنا.

اللهُ خَلَقَ الإنسانَ ليكونَ بسلامٍ وانسجامٍ معَ كُلِّ الخليقةِ والطَّبيعَة، ولَكِنَّ للأسَفِ: فَسُدَ الإنسانُ وعَاثَ في الأَرضِ فَسادًا.

بَدَأَ الإنِسانُ بالتِهامِ اللَّحم، وتَخَلَّى عَنِ الحَالَةِ الفِردَوسِيَّةِ السَّلامِيَّةِ، ليَنتَقِلَ إلى الحَالَةِ الجُهَنَمِيَّةِ العِدائيَّةِ فَاقِدًا كُلَّ رَحمَة. فَعِوَضَ أن يكونَ المُدَبِّرَ بِحِكمَة، والرَّاعِيَ بِمَسؤولِيَّةٍ كمَا أوصَاهُ الله، أصبَحَ المَستَعبِدَ والمُتَسَلِّطَ بِالسُّوءِ على أخيهِ الإنسان، وعلى الحَيوان، وعلى كُلِّ مَا خَلَقَهُ اللهُ مِن جَمَالات، وباتَ كائنًا عِدائيًّا بَدَلَ أن يكونَ مَلائِكيًّا.

​​​​​​​هَكذا انتَهىَ الأمرُ بِالمَرءِ فَأصبَحَ العَدوَّ الأوَّلَ لِنَفسِه، وانطَلَقَ في مَسيرَةِ التَّدميرِ الذَّاتيِّ وَالكَونيّ، فَتَغَمَّسَتْ بنَتيجَةِ ذَلِكَ صَفحاتُ تَاريخِ البشريّةِ بِالدَّم.

لاهُوتِيًّا، حَالَةُ الإنسانِ العِدائِيَّةُ هَذِهِ هي السُّقوطُ La chute، وفي عِلمِ الاجتِماعِ تُدعَى الخِلافَ الكَونيّ La discordance cosmologique. عَكسُها الاتِّفاقُ والانسجامُ La concordance، والمَقصُودُ السلامُ La PAIX.

لا نُحسَبُ مُتعَصِّبينَ إن قُلنا إنَّ مُنانا أن يتحَقَّقَ الاتّفاقُ الكونيُّ والانسجامُ في العالمِ أجمَعَ وِفقَ مَا بَشَّرَنا بِه الرَّب. فَسَلامُه لا يُشبِهُ السَّلامَ الّذي يُعطيهِ العَالَم.

خُلاصَةً، مَع أيقونةِ القِدِّيسِ "مَامَا"، المَوجُودَةِ في ديرِ مِيماس، والّتي خَصَّتْهُ بِها رَاهِباتُ دَيرِ القِدّيسِ يَعقوبَ الفَارِسيّ المُقَطَّع في ددّه-الكورة، تَستَوقِفُنا ثلاثَةُ أُمورٍ:

الأوّلُ، اكتساب القِدِّيسُ السَّلامَ الدّاخِليَّ لاتِّحَادِه بِالله، واستطَاعَته باسمِ الرَّبِ يسوعَ المسيح، وَبِقُوَّةِ الصَّليبِ الّذي كان يَعلُو عَصاه، أن يُرَوّضَ مَلِكَ الغابِ الّذي هَجَمَ عَليهِ بغتَةً ليَفتُكَ بِهِ وبِخِرافِه، فتحَوَّلا صَدِيقَين حَمِيمَين.

الثّاني، الحَملُ بيَدِ القِدِّيسِ الّذي يُشيرُ أوّلًا إلى يَسوعَ الحَمَلِ الذَّبيحِ لأجلِنا وَالمُخلّصِ الوَحِيد.

الثّالِث، كَيفَ أَصبَحَ الحيوانُ المُتَوَحِّشُ أليفًا، في حين أَنَّ الإنسانَ، للأسَفِ، صارَ أكثرَ وَحشيَّةً، يتَلَذَّذُ بنَهشِ لَحمِ أَخيهِ الإنسان.

فَليسألْ كُلُّ واحِدٍ نَفسَه: أمُتَوحِّشٌ أنا؟.

إلى الرَّبِ نَطلُب.

[1]. يَذكُرُ البَطريركُ إسطفان الدُّويهيّ أنَّ الكَنيسَةَ تَعودُ إلى العَامِ ٧٤٩م، ويَذكُرُ الفيكونت فيليب ده طرازي، أَنَّ تاريخَ دَيرِ مَامَا في إهدن، يَعودُ إلى العام ٧٤٧م. كِتابُ القِدّيسِ ماماس للأَرشمندريت بُولُس نزها – ٢٠٠٥م – دير مار يوحنا – الخنشارة.

[2]. للقدّيس مَامَا ١٢ كنيسة في قبرص، ويأتي ديره في المرتبة الثالث في الأهميّة بعد القدّيس برنابا وأندريا، ويوجد في اليونان بلدات وقرى تدعى باسمه (Chalkidiki, Crete and Laconia)، كما له كنائس عديدة.