فِيمَا يسوعُ يَتَكَلَّمُ، قالت لهُ امْرَأَةٌ بِصوتٍ عالٍ: "طُوبَى لِلْبَطْنِ الَّذِي حَمَلَكَ وَالثَّدْيَيْنِ اللَّذَيْنِ رَضِعْتَهُمَا". فَما كان مِن يَسوعَ إلاّ أن أجابَها: "بَلْ طُوبَى لِلَّذِينَ يَسْمَعُونَ كَلاَمَ اللهِ وَيَحْفَظُونَهُ".

هَكذا يَنتَهي مَقطَعُ[1] إنجيلِ لوقا المُخَصَّصُ لعيدِ ميلادِ الفائقةِ القداسةِ والدةِ الإلهِ مريمَ، والّذي يَقعُ في الثَّامنِ مِن شَهرِ أَيلولَ مِن كُلِّ عام.

جَوابُ يَسوعَ يُوضِحُ أنَّ هُناكَ مِقياسًا آخرَ يَجِبُ أن نَبنيَ عَليهِ، أَلَا وهوَ الإصغاءُ لِكلامِهِ، وحِفظُهُ في القَلبِ، والعَملُ بِه. هذا مَا نَسمَعُهُ في إنجيلِ هذا العيدِ أيضًا، وذلِكَ عِندَمَا يُجيبُ يسوعُ مَرتا التي شَكت لهُ شَقيقَتَها مريمَ، الّتي جَلَسَت تَسمَعُ كلامَهُ ولم تُساعِدْها في الضّيافة، إذ قالَ لَها الرَّب: "مَرْثَا، مَرْثَا، أَنْتِ تَهْتَمِّينَ وَتَضْطَرِبِينَ لأَجْلِ أُمُورٍ كَثِيرَةٍ، وَلكِنَّ الْحَاجَةَ إِلَى وَاحِدٍ. فَاخْتَارَتْ مَرْيَمُ النَّصِيبَ الصَّالِحَ الَّذِي لَنْ يُنْزَعَ مِنْهَا".

مَا يَقولُهُ يَسوعُ هُو هَذا: إذا كَانَ لا بُدَّ مِن ثَناءٍ، فَليَكُن لِمَن يَعيشُ الإيمانَ لا سِواه.

أوَّلُ مَن يَنطَبِقُ عَليهِ كلامُ الرَّبِّ يَسوعَ أُمُّه مَريمُ العذراء، فقد أَجابَتِ المَلاكَ جِبرائِيلَ الذي بَشَّرَها بِالحَبَلِ الإلَهيِّ: "هُوَذَا أَنَا أَمَةُ الرَّبِّ. لِيَكُنْ لِي كَقَوْلِكَ"(لوقا ٣٨:١).

اللافِتُ في ما سَبَق، أنَّنا نُعيِّدُ لِعيدِ مِيلادِ والدَةِ الإله، والمَقطَعُ الإنجيليُّ المُخَصصُ لِهذا العيدِ لا يَأتي على ذِكرِها. وكَذِلكَ رِسالةُ العيدِ[2] تَتكلّمُ على أنَّ يسوعَ تَجَسَّدَ وصُلِبَ وهوَ رَّبُ المَجد.

قد يَبدو الأمرُ غَريبًا بعضَ الشَّيء، وَالحَقيقةُ عَكسُ ذلك:

أوّلًا، مَن نُعَيِّدُ لِميلادِها سَتَلِدُ يَسوعَ المُخَلِّصَ، وتُصبِحُ بِالتّالي والِدَةَ الإله. ولِهذا السَّبَبِ التَعييد لها. فكُلُّ شيءٍ في لاهوتِنا مُرتَبِطٌ بالرَّبِ يسوعَ المسيحِ، وَهوَ مِحوَرُهُ.

ثانيًا، يُسوعُ أخلَى ذاتَهُ كما نَسمَعُ في رِسالةِ العِيدِ: "الَّذِي (يسوع) إِذْ كَانَ فِي صُورَةِ اللهِ، لَمْ يَحْسِبْ خُلْسَةً أَنْ يَكُونَ مُعَادِلًا للهِ. أَخْلَى نَفْسَهُ، آخِذًا صُورَةَ عَبْدٍ، صَائِرًا فِي شِبْهِ النَّاسِ. وَإِذْ وُجِدَ فِي الْهَيْئَةِ كَإِنْسَانٍ، وَضَعَ نَفْسَهُ وَأَطَاعَ حَتَّى الْمَوْتِ مَوْتِ الصَّلِيبِ"(فيليبي ٦:٢-٨).

العذراءُ عاشَت هذا التَّواضُعَ، وقالَت في نَشيدِها: "لأَنَّهُ نَظَرَ (الرَّب) إِلَى اتِّضَاعِ أَمَتِهِ" (لوقا ٤٨:١). فَهيَ لم تَتَباهَ أنَّها أصبَحت أمَّ المُخَلِّص، بل ذهبت عِندَ أليصابَاتَ لِتَخدِمَها، وكانَتِ الإنسانةَ الأكثرَ تَواضُعًا، ولم تَطلُبْ يَومًا شَيئًا لِنَفسِها. كذلك قَبِلَت مِنَ اللحظةِ الأُولى أن يَجوزَ سيفٌ في قلبِها، وهُوَ الصَّليب[3].

نَعرِفُ جَيّدًا أنَّ مَحطّةَ الصَّلبِ لم تَكُنِ النِّهايَة، بل تَلَتها القِيامَةُ، فكانَ الخَلاص. كَذَلِكَ إنَّ حلَّ الرَّبِّ لِعُقمِ والِدَي مَريمَ صورةٌ قِيامِيَّةٌ أيضًا: الكَهلان يُواكيمُ وحَنَّةُ يُعطِيان حَياة.

كَذلِكَ، عَدَمُ الإنجابِ لَعنَةٌ بِالمَفهُومِ اليَهُودِيّ، إذ كانَ رَجاءُ كلِّ زَوجَين يَهودِيَّين أن يَأتيَ مِنهُما المُخَلِّصُ المنتَظَر. وهُنا تَأتي مَريمُ الّتي سَتَلِدُ المخلّص. وقد فَسَّرَ الآباءُ القِدّيسُونَ مِيلادَ العَذرَاءِ رَجَاءً للبَشَرِيَّةِ جَمعَاء، ومُؤَشِّرًا لِقُربِ دُخُولِ المُخَلِّصِ حَياتَنا، إذ أَتَتِ الأحشاءُ التي سَتكونُ أوسعَ مِن السَّماواتِ، وتَسعُ مَن لا يَسَعُهُ مَكان.

إذًا هذا العِيدُ يَجمَعُ الفَرحَ وَالقِيامَةَ وَالخَلاصَ وَالرَّجاءَ، ولَكِن يَبقَى أن نَنضَمَّ نَحنُ إلى هَذِهِ الرُّبَاعِيَّةِ المَجِيدَة.

الرَّبُّ يُريدُنا أن نَكُونَ "أَمَةً للرَّب" كما العَذراء. هُوَ يَحزَنُ لِسُقوطِنا ويَفرَحُ بِقيامَتِنا. قَلبُهُ دائمًا عَلينا، فَنحنُ مَعشُوقُهُ، يَنتَظِرُنا بِصَبرٍ وَبِمَحَبَّة، ويَرجُو خَلاصَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنّا.

هنا، يَتَبادَرُ إلى ذِهني أَمران:

الأَوَّلُ، مَا كَتَبَهُ Charles Péguy في مُدَوَّنَتِهِ الشِّعرِيَّةِ[4] عَنِ "الرَّجَاءُ"، الفَضيلَةِ الثَّانِية بِحَسَبِ بُولُسَ الرَّسول: "الإِيمَانُ وَالرَّجَاءُ وَالْمَحَبَّة[5]".

بُولُس اعتَبَر أنَّ "أَعْظَمَهُنَّ الْمَحَبَّةُ"، بَينَما وَضَعَ Péguy "الرَّجَاءُ" في المُقَدّمَةِ، كَاتِبًا أَنَّها الفَضيلَةُ الأَصعَبُ والأَحَبُّ على قَلبِ لله. وقَد رَمَزَ إليها بِالطُّفُولَة، وجَعَلَها فَتاةً صَغيرَةً وُلِدَت في المِيلادِ، وتَسيرُ مَعَ شَقيقاتِها الاثنَتَين -الإيمانِ والإحسانِ– اللَّتَين يَكبُرانِها سِنًّا. صَحيحٌ أنَّهُما يُمسِكانِها بِذرَاعَيها، ولكنَّها تَتقدَّمُهُما كَمُرشِدَةٍ. ووَصَفَ الرَّجاءَ بِصَاحِبَةِ الرُّؤيَةِ الّتي تَرى أبعَدَ مِنَ الحَاضِر، وتَتقدَّمُ في البَراءَةِ بِثِقَةٍ نَحو المُستَقبَل.

الثَّاني، ما كَتَبَهُ الكاتِبُ الفَرنسيُّ المُعاصِرُ Jean Bastaire، حَولَ مُدَوَّنَةِ Péguy هذِه. كَتَبَ Bastaire أنَّ رَجاءَ اللهِ في الخَاطئِ كَبيرٌ، كَذَلِكَ رَجاءُ الخَاطِئ بِاللهِ كَبير. ويُكمِلُ، اللهُ صَاحِبُ المُبادَرَة، ومَوقِفُهُ مِنّا يُوضِحُ أنَّ حُبَّهُ هو الأكثَرُ جَمالًا، بِخَاصَّةٍ عِندَما يُصبِحُ مَن يُحِبُّ مُعتَمِدًا على مَن يُحِبُّه. اللهُ يَعتَمِدُ على الخَاطِئ، ويَرتَجِفُ مِن أَجلِهِ رَاجِيًا أن يُصلِحَ نفسَهُ، مِثلَ الابنِ الضَّالِ، الّذي ارتَمى بَينَ ذِراعَيه.

مَا هُوَ جَميلٌ هُنا أنَّ لِكلاهُمَا قِصَّةً مَعَ الرَّجاءِ، فـCharles Péguy عَادَ إلى المَسيحِيَّةِ في آخَر سَنَواتِ حَياتِهِ مُكتَشِفًا حُبَّ المَصلُوب، وَ Jean Bastaireقَامَ بِمَسيرَةٍ دَاخِلِيَّةٍ لِحَوالي سَنتَين إبَّانَ عِلاجِهِ مِن مَرَضٍ عُضالٍ أَلَمَّ بِهِ، وَأَوصَلَتهُ مَسيرَتُهُ هَذِهِ إلى المَسيحِيَّةِ بَعدَ أن كَانَت طَبَعَتْهُ الهِندُوسِيَّة. الإثنان أَبدَعا في كِتابَاتِهِما عَن الإيمَانِ المَسيحِيّ والرَّجاء.

نهايةً، مَعَ كلِّ تَذكارٍ لِمَولِدِ وَالِدَةِ الإلَهِ يَرجُو اللهُ أن نُولَدَ مَعَها مِن جَدِيد، ويَنفَكَّ عُقمُ إيمَانِنا، ويُولَدَ المَسيحُ فينا، ونَلِدَهُ للأخَرين.

إلى الرَّبِ نَطلُب.

[1]. لوقا ٣٨:١٠-٤٢، ٢٧:١١-٢٨.

[2]. فيليبي ٥:٢-١١

[3]. قال سمعان الشيخ لوالدة الإله: "وَأَنْتِ أَيْضًا يَجُوزُ فِي نَفْسِكِ سَيْفٌ"(لوقا ٣٥:٢).

[4]. Le Porche du Mystère de la deuxième vertu - Charles Péguy (1873-1914)

[5]. ١ كورنثوس ١٣:١٣