غادَرَنا إلى دُنيا الحَقِّ في التاسع مِن شَهر تِشرين الأوَّل عَن عُمرٍ يُناهز الخَامس وسبعين سنّة Bruno Latour، عالِمُ الأنثروبولوجيا الفرَنسيّ، الأستاذُ الجامعيّ وعالِمُ الاجتماع، الكاتبُ والفيلسوفُ والباحثُ في العلوم.

كان Latour يُطالِبُ باستمرار بِولادة طَبقَة جَديدة في المُجتمع أسماها: "الطبقة البيئيّة"، تُعالِجُ مواضيع البيئة وكلّ ما يحيط بنا في هذا الكَوْن ويُؤثّر على الإنسان. ودَعا إلى سِياسة جادّة في هذا الموضوع.

كلمةُ Écologie في أصلِها اليونانيّ تعني: الكلامُ والفِعلُ حولَ المنزِل والمَقام. لكنّه ليس حصرًا البيت حيث نَنزِل ونُقيم Habitation. ولها معنى كبيرٌ يَمتدّ مِن المنزِل الخاص الصغير إلى المنزل الكَونيّ الكبير.

مَسيحيًّا، هذا أكثر مِن مُبارَك. فالله خَلقَ الإنسان على صورته كشبهه، "وأخذ الرَّبُّ الإِلهُ آدَمَ وَوَضَعَهُ فِي جَنَّةِ عَدْنٍ لِيَعْمَلَهَا وَيَحْفَظَهَا[1] ". الإنسانُ مدعوّ لأن يكون على شِبه الله، وأن يُظهِر مع الآخرين وكلّ ما يحيط به جمالَ الخالق في العالم. هذا ما يتطلّب مِنّا أن نكون "جُمَلاء بالرُّوح".

يَذكُر Latour أن الكنيسة مُنذُ بِدايتِها، حَمَلت رسالة الكَوْن بأجمعه مِن خلال الآباء القدّيسين، ويَقول إن الحِفاظ على الكَوْن يتطلبّ صَحوَةً عند الإنسان وأن يكونَ سَيّد نَفسه، إذ إنَّ الأنظمة السياسيّة الحَسَنة على كلّ الأصعدة تُولَدُ مِن الفِكر الحَسَن.

يُوجَد في لاهوتنا كلمة عميقة جدًا وهي: Enkrateia. هذه الكلمة اليونانيّة والفلسفيّة انتقلت مع تلاميذ سقراط مِن "السلطة على شيء أو على الآخر" إلى "السلطة على الذات Self-control and Self-mastery" لتعود وتأخُذ معناها الكامِل في المسيح.

تُرجِمَت هذه الكلمة في اللُّغَة العربيّة في العهد الجديد بـِ "تَعَفُّف"، وفي اللُّغَة الفرنسيّةLa tempérance ، وفي الإنكليزيّةSelf-control ، وهذا يعني: ضَبْط النَفِس الطَوعيّ، والسيطرة على الذات، ومقاومة التجاوزات مِن أجل اكتساب النِعَم والفضائل.

هذا تمامًا ما نُصَلّيه في طِلبَة رأس السَّنَة[2]: "أعطِنا يا رب أن نَجوزَ السَّنة المُقبِلة بِسَلام وَوِئام، مُتَزَيِّنين بإكليل الفَضائل، وسالكينَ بِنورِ وصاياك كأبناء النهار".

يُقول أستاذ اللاهوت والفلسفة المعاصر الفرنسي [3]Jean-Claude Larchet في هذا المضمار: إن الأزمة البيئيّة هي نتيجة بُعدِ الإنسان عَن الله، ولا حَلّ لذلك إلّا بِرجوع الإنسان إلى الله. فإذا اصطلح الإنسان اصطلحَ الكون، ويتابع: إن كلّ الأزمات في العالم والأوطان هي روحيّة، لذا يجب أن يكون العِلاج روحيًّا.

بالعَودة إلىLatour ، فقد اشتهرَ كثيرًا في العالم الناطقِ باللُّغَة الإنكليزيّة، ووَصفَته إحدى الإعلاميا[4] بأنّه أكثر الفلاسفة الفرنسيين شُهرةً، إلّا أنّه أكثر الذين لم يفهموه، إذ إنّه تكلّم أيضًا بإسهابٍ على المجتمع والإنسان، وعلى التطوّر والتقدّم، وعلى ما دُعي بالتمدّن. فاتّهمه كثيرون بأنّه رجعيٌّ وغريب الأفكار والطروحات Bizarre.

هنا أدخل إلى العُمْق. هذا الاتّهام يَعودُ لتحذيره مِن فِخاخٍ كثيرةٍ اجتاحت الإنسان المُعاصر ودَوره في المجتمع كَفرد، وارتباطه بالآخرين وبالكَوْن كَكُل. كلامه أعتُبِرَ: "عَكْسُ التَيّار".

ما نادى به Latour نادت بِه المسيحيّة مُنذ وجودها. وليتني كُنتُ أعرِفه شَخصيًّا، لكنتُ راسلته قائلًا له: "لا تنزعج مِن اعتبارك غَريبًا، لأن كلّ مَن ينادي بـِ "عُكْسُ التَيّار" يُعتبر غَريبًا، وأوَّل "غَريب" كان الرّب يسوع المسيح. هذا ما نُرتّله في الأسبوع العَظيم، بِحيث نَسمَع يوسف الرامي يَطلب مِن بيلاطس البُنطيّ أن يُعطيه هذا – الغريب - ليدفنه".

يَقول Latour إن الحَداثة المُعاصِرة La modernité حَجبت أنماطًا مُختلفة مِن الوجود، كالعلوم الحَقيقيّة والإيمان، ويَجب التخلّي عَن المفاهيم الضّارّة والخَادعة والْمُشَتِّتَة التي تُوَلّد انقِسامًا داخِل الإنسان، وتَجعلَه في حالةِ نِكران للواقع. كما يَعتَبِر أنّ الأكثر ضررًا هو التَعارض بين المادة والرُّوح، وهذا ما يَجعل الشعوب في أماكِن كثيرة لا تُبدي أيَّة مُقاومة عندما تتلقّى المَفاهيم الهَدّامة. كما أن الحَداثة جَعلت الإنسان يَدخل في الضباب، بِخاصة بعد النجاح في فَصلِ الماضي عن الحاضر تحت ذريعة التطوّر الذي ليس هو الازدهار. بالإضافة إلى المحاولة المُستمرّة لِفَصل المعرفةِ عن الإيمان. فأصبح المَرء يَعيش في عالمٍ مليء بالتضادّ العقيم. واعتبر أيضًا أن هدفَ هذه الحَداثة هو قطع الحناجر المعاكسة، فدعا إلى إعادة اكتشاف الحقائق كما هي وليس كما تُقدَّم إلينا.

لدى Latour مُؤَلَّفًا بِعنوان: "لم نكن معاصرين أبدًا[5]"، بالإضافة إلى مُؤلّفات أخرى. وقد طَرَح نِقاطًا هامّة جِدًا تَمَحوّرت حَولَ الحقيقة وعَكسِها، الفَهْمُ وعَدَم الفَهْم، المَعرِفَة وغِيابِها، وحَولَ الواقِع والوَهِم. وقد يكون مِن أهم الأسئلة التي طرحها: "أينَ نَحنُ اليَوم؟ ما هوَ مَنزِلنا؟ أي نُقيم"؟.

أتى سُؤاله هذا بَعدَ كَلامه على الضَياع الذي أصابَ الإنسان المُعاصر، والذي جَعلَه لا يَعرِف ماذا يُناقِش، إذ إنَّه بِتَخَلّيه عن تاريخِه وماضيه archaïque، أصبحَ إنسانًا مُشَرَّدًا وهاربًا، يُريد كلّ شيءٍ وفي الوقتِ نَفسهِ لا شيء يُرضيه، لأنّ عُمقَه باتَ مُشَوَّشًا.

ويَقول: مَن ثَار على القَمِع مارَسَ أسوأ مِنه، ومُصطلَحاته كاذِبَة ومُنحَرِفة، مِثلَ الحُريّة والحقوق الشَخصيّة وغيرها.

بالمقابل يدعو Latour المَسيحيين لأن يَكونوا شُجعانًا، وألّا يُحاوِلوا إثبات إيمانهم بِنظريّاتٍ عِلميّة، لأنّه ليسَ بِحاجةٍ إلى ذلك.

خُلاصة، يَصرُخ Latour ويَقول إنَّ الأزمة البيئية تَدقُّ أجراسَ الحُزن. وللخروج مِنها يَجِب إعادة المَكانة الشَّرعيّة للإيمان، طبعًا الإيمان الحقيقيّ غير المُتَسَلّط، وذلك مِن أجلِ قيامةٍ حقيقيّةٍ شاملةٍ وكونيّةٍ منذ الآن. هذا الإيمان الذي يَهِب السلام والاتّزان للبشر. كما أنّه يُعطي أهميّةً كبيرةً لِتناول القُدُسات – جَسَد الرَّب ودمَه الكريمين: فَتَحَوُّل القُدسات حَقيقيّ.

نِهاية، يَسأل هذا الراحِل: "أيُّ شَعبٍ نَحن، وعلى أيِّ أرضٍ نَسكُن"؟.

الجَواب هوَ أنّنا خُلِقنا لكي نَكون مُواطني السَّماء، وبِناءُ منزِلنا السَّماويّ يَبدأ مُنذُ الآن، نَبنيه مِدماكًا مِدماكًا بِالرجوع إلى الله واكتشاف حقيقة الإيمان.

إلى الرَّب نَطلُب.

1. تكوين ١٥:٢

2 . اليوم الأوّل مِن شهر أيلول هو بداية السنة الليتورجيّة في الكنيسة الأرثوذكسيّة، وهو أيضًا يوم البيئة الذي تم إعلانه في العام ١٩٨٩م في البطريركيّة المسكونيّة في القسطنطينيّة.

3. Jean-Claude Larchet .Orthodoxe. Docteur d’État en philosophie (1987, puis docteur en théologie de l’Université de Strasbourg (1994(.

4. Ava Kofman, The New York Times Magazine, 25 octobre 2018: « France's most famous and misunderstood philosopher ».

5. Nous n'avons jamais été modernes (1991).