مع مغادرة الرئيس ميشال عون القصر الجمهوري في نهاية هذا الشهر مختتما ولايته، لا بد من التوقف عند النقاط آلاتية:

١-إن لبنان لا يهضم رئيسا قويا، قادرا على دكّ معاقل الفساد وحرّاسه والقائمين به، بدليل أن كل منظومة الفساد التي برزت بانيابها واظفارها بعد الطائف ناصبته العداء، والتقت من مواقعها المختلفة على تطويقه، واحباط كل تطلعاته وخططه. وبالتالي مقولة: "ما خلّونا" صحيحة مئة في المئة، وهذا ما ظهر في غير ملف. وأن ما قاله رئيس الحكومة الأسبق سعد الحريري عن النكد السياسي الذي اطاح بخطة الكهرباء، هي خير دليل.

٢-إن التفاهم مع "القوات اللبنانية" بدلا من أن يكون فرصة لوحدة الصف المسيحي على ثوابت وطنية، تحوّل إلى فخّ ومكيدة وقع في حبائلهما "التيار الوطني الحر"، الذي كان منشغلا بتحقيق مكاسب سياسية وادارية، غافلا من دون قصد حتما، عما كان يبيته رئيس "حزب القوات اللبنانية" سمير جعجع الذي أجاب من انتقده لتأييده وصول عون إلى الرئاسة، راسما ابتسامة ذات مغزى: "اليوم بدأ ميشال عون مسيرة السقوط"، كاشفا عن نيته العمل على افشال ولاية من وقّع معه اتفاقا في معراب، وصوّت إلى جانبه في الاستحقاق الرئاسي العام 2016.

٣-الولايات المتحدة كانت تريد من لبنان :

أ-القبول بخط هوف الذي سلب لبنان الكثير من الحقوق في حقول الغاز.

ب-أن يقبل بصفقة القرن. أي بتوطين الفلسطينيين.

ج-أن يقبل بعدم عودة النازحين السوريين إلى بلادهم ودمجهم في المجتمع اللبناني. اي توطين مضاف.

د-أن يلتزم بتجريد "حزب الله" من سلاحه. أي الدفع في اتجاه حرب أهلية.

وعندما أعلن موقفه الرافض لشروط واشنطن في دورة الجمعيّة العموميّة للأمم المتحدة في نيويورك العام 2019، جاءه الرد في 17 تشرين الأول من العام نفسه، بثورة خُيّل للناس انها عفوية، لكنها مدروسة، ممولة من الإدارة الاميركية والرياض، ومنظمات غير حكوميّة ترتفع حولها عدة علامات استفهام وتدور في فلك الاتحاد الأوروبي. والا كيف يفسر أي مراقب موضوعي هذه الانتفاضة اعتراضا على استحداث سنتات زهيدة كرسم على "الواتساب"، ولا تهبّ من جديد إزاء الارتفاع الصارخ في أسعار الاتصالات والمحروقات.

ه-إن رياض سلامه (حاكم مصرف لبنان) الذي أعلن قبل اسبوع من نشوب الانتفاضة أن لا خوف على الليرة البتة، وأن الدولار لن يتخطى عتبة الالف وخمسمئة ليرة لبنانية، تلطى مع جمعية المصارف وراء التظاهرات، لإغلاق المصارف، وإثارة الذعر، فيما سهّل والجمعيّة، عمليات إخراج مليارات الدولارات لكبار السياسيين ورجال الاعمال والاثرياء المحظوظين. قبل اتّخاذ القرار الجائر بوضع قيود مشدّدة على ودائع المواطنين وسحوباتهم. وهل يمكن القول أنّ ذلك عن طريق الصدفة؟.

و-كيف يمكن تفسير مشاركة العاملين في الـ NGOSفي لبنان، ولاسيما من ينشط في المفوضية السامية لحقوق الانسان بكثافة في التظاهرات، وهتافاتهم: "النازح جوّا جوّا".

ز-كيف يمكن تفسير التدخل السافر للسفارتين الاميركيّة والفرنسيّة وسواها من سفارات عربيّة واقليمية، في الانتخابات النيابية لاسقاط التيار الوطني الحر وخفض كتلته. ولهذه الغاية -وعلى ذمة الراوي- فإن حزبا مسيحيًّا تلقّى 200 مليون دولار وشخصية سياديّة 50 مليون دولار عدا أحزاب وشخصيات اخرى، فيما كانت حصة إحدى القنوات التلفزيونيّة 70 مليون دولار.

مصيبة الرئيس عون أنّ فريقه لم يُجد تسليط الضوء على ما واجهه من حرب ضروس، ولم يسعَ إلى الرد العلمي والموضوعي الذي يُفحم من يعمل على "اعدامه" معنويا، وهو يعلم أنّ الذين يحاربونه، ويحاصرونه، ويسعون إلى حذفه، هم في غالبيتهم من المسيحيين، وخصوصا الموارنة، الذين لم يمتهنوا منذ القدم الا حروب الالغاء، التي نادرا ما كانت لأسباب مبدئيّة، بل تتصل بالتصارع على السلطة، والكرسي، غير عابئين بمصلحة الوطن. وهذه الحروب كانت وبالا عليهم وعلى لبنان، ولن يكون في مقدور احد من قياداتهم مهما امتلك من قوّة شعبية وقدرة مالية، على انقاذهم. تصوّروا أن رياض سلامه، حاكم مصرف لبنان، عفوا لبنان، ينقل عنه في مجالسه الخاصة مباهاته، بأنّه سيلهب سعر صرف الدولار في الأسواق إلى اللحظة الأخيرة لولاية عون. وبعد خروج الاخير من قصر بعبدا سوف يأخذ الدولار مسارا انحداريًّا، وكأنّ سلامه يريد الايحاء بأن "الفرج" كان مرتبطا بمغادرة عون القصر نهائيا.

في الواقع إنّ بعض القيادات المسيحيّة استطاعت تجييش الرأي العام في شارعها ضدّ خيارات عون المنطقيّة والوطنية، باختلاق السيناريوهات واختلاق تحليلات غير واقعية وكاذبة، وهي تصرّفت معه مثلما تصرفت مع الرئيس فؤاد شهاب في العام 1968، قبل أن تندم وتكتشف خطأ قراءاتها وتصرفاتها. لكنها اسهمت في هدر فرص كثيرة، وكانت مستتبعة لمنطق احد الذي يشغلون منصبا رفيعا: "والله لن ادع ميشال عون يحقق شيئا طوال ولايته."

في أيّ حال كفى عون انّه أتم إنجاز ترسيم الحدود البحريّة، وفي عهده وبفضل اصراره وعناده وثباته أصبح لبنان بلدا نفطيا، وهو أيضا وضع الترسيم شمالا على السكّة مع سوريا. وبفضل عناده على حقّ وطنه دفع قبرص للتفاوض حول الملفّ المتّصل بها في مسألة الترسيم ايضا .

الدهر، كال​سياسة​ قلاّب: يوم لك ويوم عليك. وعلى هذا قد أدبر اليوم الذي كان شديد الوطأة على الجنرال، واليوم التالي قد يكون له.

وفي انتظار أن يقبل هذا اليوم، أجد الرئيس عون مرددا مع المقنع الكندي:

وإن الذي بيني وبين بني أبي

وبين بني عمي لمختلف جدا

أراهم إلى نصري بطاء وإن هم

دعوني إلى نصر اتيتهم شدا

فإن يأكلوا لحمي وفّرت لحمهم

وإن يهدموا مجدي بنيت لهم مجدا