بَعدَ قِراءة إنجيل السَّحَر، نَتلو في الكنيسة طِلبةً يَتخلّلها طَلب شفاعَة مجموعة مِن القِدِّيسين، مِن بينهم قادّة عسكريين استشهدوا بِسَبب إيمانهم بالمسيح، فنقول: "خَلِّص يا الله شعبك... بشفاعات... والقدّيسين المَجيدين الشُهداء العُظماء جاورجيوس المُظَفَّر وديمتريوس المُفيض الطيب، وثيوذوروس التيروني، وثيوذوروس قائد الجيش...". وقد عيّدنا في السادس والعشرين مِن هذا الشهر للقِدِّيس ديمتريوس، لِذا سأستفيض في سِيرته في أواخِر النَصّ الراهِن.

يُصَوَّر هؤلاء القِدِّيسون القادة في لِباسِهم العَسكَريّ الكامل ببهاءٍ مُلفِت، حَامِلين الرِمحَ والسَيْفَ والتُرْس.

سِيرتهم عَظيمةٌ جِدًا.

القِدِّيس جاورجيوس (ق٣م) والذي يعني اسمه: "حارث الأرض/الفَلّاح"، وُلِدَ في كبادوكيا لعائلةٍ مَسيحيّةٍ غنيّةٍ مَعروفة. كان والِده أمير، ووالدته ابنة أمير في اللدّ في فِلَسْطِين. نشأ على الإيمان المسيحي، وبَرَع في العِلْم والفروسيّة. استشهد والدُه مِن أجلِ المسيح، حينَ لم يَكن جاورجيوس قد تجاوز الرابعة عشر.

على إثر ذلك، عادت والدته إلى اللدّ. ولمّا بَلغَ جاورجيوس السابعة عشر، وكان وسيم الطلعة وقوي الساعد، أُعجِبَ بِه الحاكم وأرسله إلى الإمبراطور Dioclitien في روما ليُرقّيه. فأُعُجِبَ بِه الإمبراطور أيضًا ومنحه لَقَبَ "أمير"، مُخصّصًا لهُ راتِبًا شَهريًّا ضخمًا، وجَعله قائدَ ألف، وعيّنه حاكمًا لِعدّة بلاد، وسجّل اسمَه في ديوان الإمبراطوريّة مع العظماء.

عاد جاورجيوس إلى فِلَسْطِين، فاستقبله حاكمُها بالحفاوة والتكريم. اشتهرَ جاورجيوس بانتصاراتِه في الحروب حتى لُقِّبَ بـ "اللابس الظفر". وبالرغم مِن طاعَتِه العَسكريّة، وَقفَ في وجهِ أوامر الإمبراطور بسبب اضطهاد الأخير للمسيحيين رَافِضًا كلّ الإغراءات التي قَدّمَها لهُ الحاكم، واستُشهِدَ بَقطعِ هامته بعدَ سِلسِلةٍ مِن العذابات المُروّعة. فباتت ألقابُه سَماويّة: دُعِيَ "العظيم في الشهداء"، وأصبحَ لابسًا الظفر بالمسيح، حتّى إنّ الكنيسة لقّبَته بــِ"أمير الشهداء"، فَسُجِّل اسمُه في كتابِ الحياة، داخلًا التاريخ بشرفٍ إلهيٍّ كبير.

أمّا القِدِّيس ثيوذورس التيروني المُعظّم في الشهداء ‏‏(القرن٣-٤م)‏، فَكان في عِدادِ فريقٍ عَسكريٍّ نُخبَويٍّ. اسمه يعني "هديّة/عطيّة الله"، و"التيروني" تعني "المُجَنَّد الجديد أو حديثًا".

نشأ ثيوذورس في بيتٍ مسيحيٍّ وتربّى على إيمان ثابت ومُعاش. وقفَ بكلِّ شجاعة غير مُستسلمٍ أمام الحاكم وقال له جِهارًا: "أنا لا أسجد للآلهة، أنا أعبدُ الرّبَّ يسوع فقط وأشهد له، لأنّه هو الإله الحق". كما حَطّم الآلهة الوثنية في مَعبدِ آماسيا وأحرقَ المعبد. رفَضَ كلّ الإغراءات المغرية التي عُرِضَت عليه، ساخرًا مِن الحكّام المزيّفين. استُشهِد في النهاية حَرقًا، وأصبحَ قبرُهُ في Euchaita في تركيّا مَحجّةً.

كذلك القِدِّيس الشهيد ثيوذوروس قائد الجيش (القرن الرابع)‏، فهو مِن مِنطقة التيروني ذاتها. عُرِفَ بشجاعته وبلاغته بالكلام. حازَ على تَقدير الامبراطور Licinianus الذي عيّنه قائدًا للجيش وحاكِمًا لمدينة هرقلية في مدينة البنطس في آسيا الصغرى. جَذبَ إلى المسيحيّة كثيرين بِثباتِه ودماثة أخلاقِه وصِدقِه. لم يَخَفْ مِن الإمبراطور، ولم ينصع لأوامره بالسجود للآلهة. استُشهِد بعد أن عُذِّب كثيرًا. جرَت بواسطة رفاته عجائب جَمّة. وسُمِّيت المدينة "ثيودوروبوليس" تَيَمُّنًا باسمه.

أمّا بالنسبة للقِدِّيس ديمتريوس المُفيض الطيب (ق٣م)، فهو ثاني أشهر القِدِّيسين المُحارِبين بَعدَ القِدِّيس جاورجيوس. وُلِدَ لعائلة مسيحيّة في مدينة تسالونيكي حيث تَرعرع. وأصبحَ شفيع هذه المدينة. وله جِداريّات مِن القَرنِ السابع الميلاديّ.

جَرَت العادة في عِيدِه[1] أن يَتِمَّ استقدام أيقونة عَجائبيّة، أو ذخائر قِدِّيسين، مِن الجبل المقدّس (آثوس)، أو مِن خارج اليونان، مِن أورشليم مثلًا، إلى تسالونيكي حيث تُستقبَل استقبالًا مهيبًا مِن قِبَل السلطات المحليّة والكنسيَّة، فيحضر آنذاك رؤساءُ كهنة وكهنةٌ ورهبانٌ مِن داخل وخارج البلاد. ويَبدأ زِيّاحٌ[2] كبيرٌ يَنطلِق مِن مَرفأ تسالونيكي إلى كَنيسة القِدِّيس ديمتريوس الحاليّة مكان وجود رفاته، حيث شُيِّدَت الكنيسة القديمة فوقَ ضريحه في أوائل القرن الخامس. كلّ تسالونيكي تَسير وتُسَبِّح وتُهَلِّل في عيده: كَهنةُ المدينة ومُختَلَف الفِرق الكنسيّة والكشفيّة والوطنيّة.

كان والد القِدِّيس ديمتريوس قائدًا عَسكريًّا ذو مكانة كبيرة، وكان في الوقت نفسه تقيًّا جِدًا، مُحِبًّا للصلاة وصَديقًا للفقراء. ربّى ولدَه على هذه الفضائل. ماثلَ ديمتريوس أباه، فالتحق بالجيش، حيث أصبح قائدًا عَسكريًّا شُجاعًا وحَكيمًا، وصاحبَ عِلمٍ ومَعرفة. فأقامه الإمبراطور Maximianus حاكمًا.

كان ديمتريوس ثابتًا في إيمانه المسيحيّ، رافضًا لأيَّة مساومة على إيمانه حتّى الاستشهاد، وضاربًا بعرضِ الحائط كلّ ما قُدِّمَ له مِن مغريّات ومراكز على أن يُنكرَ المسيح الحق.

عِندما سَجنه الإمبراطور، حَدثَ أنّه تَعرّف عليه شابٌّ يُدعى "نسطر" واعتنقَ على يَدِه المسيحيّة. استطاع "نسطر" أن يقضي على مُصارِعٍ ضَخمٍ ومُفَضَّلٍ عِندَ الإمبراطور يُدعى "لهاوش Lyaeos"، الذي كان يَتَلذَّذ بِقطعِ هامات المسيحيّين وتَعليقها على الرِماح حول الحَلَبَة، عِقابًا بِسببِ إيمانهم.

فما كان مِن الإمبراطور إِلّا أنّه انتَقم لهزيمةِ مُصارعه على الفور، فأمَرَ بِطَعنِ ديمتريوس بالرِماح حتّى الموت، وبقَطْعِ هامَة نسطر، الذي يُعيَّد له في اليوم التالي لعيدِ القِدِّيس ديمتريوس (٢٧ ت١).

للقِدِّيس ديمتريوس أيقونات تشبه التي للقِدِّيس جاورجيوس. نشاهده فيها يَمتطي حِصانًا ويَطعن بِرمحِه رَجُلًا[3]، يكون أحيانًا لهاوش، وأحيانًا يَرمز إلى مَلك الكُفّار، رمز الغزاة الذين هدَّدوا مدينته تسالونيك. كما أنَّ هناك أيقونات نشاهد فيها مَلاكًا يضع على رأس القِدِّيس إكليلًا.

يُلَقَّبُ القِدِّيس ديمتريوس بـِ "المُفيض الطيب"، لأن الله يَسمحُ أنَّ طيبًا يَفيض مِن رُفاته.

إنَّ كلمة "ديمتريوس" في الأساس تعني "الأرض الأم" أو "القمح النابت مِن الأرض"، تَيَمُّنًا بالإلهة الوثنيّة "Demeter"، إلهة الزراعة والحصاد والخصب. إلّا أنَّ القِدِّيس رفع معنى اسمه إلى السماء حيث موطننا الأوّل، فالله هو الأب والأم وكلّ شيء، مُحقّقًا باستشهادِه ما قاله الرَّب: "اَلْحَقَّ الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنْ لَمْ تَقَعْ حَبَّةُ الْحِنْطَةِ فِي الأَرْضِ وَتَمُتْ فَهِيَ تَبْقَى وَحْدَهَا. وَلكِنْ إِنْ مَاتَتْ تَأْتِي بِثَمَرٍ كَثِيرٍ." (يوحنا ٢٤:١٢).

ماذا نتعلّم مِن هؤلاء القادة القِدِّيسين؟.

نتعلّمُ مِنهم الشجاعةَ والصِّدْقَ والاستقامةَ والنزاهةَ والثبات، والحِكمَ العادلَ البعيد كلَّ البُعد عن التَسلُّط والظلم والاستبداد. قداستهم امتداد لفضائلهم وأمانتهم في خِدمَة وطنِهم. لم يُواربوا لحظةً، ولم يَستبدلوا إيمانهم ومبادئهم بالمال أو بالمراكز. نالوا رِتَبَهم عن جَدارةٍ واستحقاق، وليس بالحيلة والتَزَلّف. لم يُطيعوا إلّا الحق، ولم يُساوموا عليه حتّى الاستشهاد. لم تكن طاعتهم لشخصٍ مهما علا شأنه، بل للمسيح وحده. فأضحَوا واحدًا بالقول والفعل.

إلى الربِّ نَطلب.

[1]. يوم ٢٦ تشرين الأوّل هو عطلة رسميّة.

[2]. الزيّاح يكون في ٢٥ تشرين الأوّل – غروب العيد.

[3]. في البلدان السلافية يَرمز الرجل المهزوم إلى الملك البلغاري (١١٧٠-١٢٠٧م)، الذي مات أثناء حصار تسالونيكي.