رسميًا، يمكن القول إنّ البلاد دخلت رسميًا مرحلة "الفوضى" التي يبشّر بها المسؤولون منذ فترة، ولو ألبسوها الزيّ "الدستوري"، الذي يخفي وراءه الكثير من العناوين والأوجه السياسية التي ما عادت خافية على أحد، "فوضى" لا يخشى اللبنانيون أن تعيد "استنساخ" التاريخ غير الناصع فحسب، ولكن أن تجرّهم إلى مزيد من الاهتزازات والخضّات، في أصعب وأدقّ مراحل تاريخهم، خصوصًا على المستويين الاقتصادي والاجتماعي.

بدت ملامح هذه "الفوضى" جليّة في خطابات وتصريحات الأيام القليلة الماضية، وما فجّرته من سجالات "نارية" على أكثر من محور، إذ لم يكد المهلّلون لـ"إنجاز" ترسيم الحدود البحرية مع إسرائيل ينهون احتفالاتهم، حتى برز "التخبّط" الداخلي، على وقع "الخلاف" حول صلاحيّة حكومة مستقيلة تمارس الأعمال بالمعنى الضيّق، في استلام صلاحيات رئيس الجمهورية، بعدما أضحى الفراغ الرئاسي أمرًا محتّمًا، كما كان أساسًا منذ اليوم الأول.

ولعلّ إطلالات رئيس الجمهورية ​ميشال عون​ "الوداعية" جاءت لتعزّز هذا الجو، خصوصًا بعدما ظهر الرجل بصورة أعادت إلى الأذهان صورة "جنرال الرابية" التي غابت عن الواجهة لستّ سنوات خلت، ففتح النار في كلّ الاتجاهات، مهاجمًا الأفرقاء جميعًا، "كلن يعني كلن"، باعتبار أنّهم وقفوا في وجه مشروع محاربة الفساد، قبل أن يفتح "جبهة" مع رئيسي الحكومة نجيب ميقاتي والبرلمان ​نبيه بري​، دفعت حركة "أمل" للدخول بقوة على خط السجال.

وفيما لم يغب رئيس "​التيار الوطني الحر​" الوزير السابق جبران باسيل عن صورة "المواجهة"، بسلسلة مواقف أطلقها في اليومين الماضيين، نبّه خلالها من "الفوضى الشاملة"، رافضًا "بيع ما تبقى من صلاحيات" لنجيب ميقاتي ونبيه بري، كما قال، تُطرَح سلسلة من علامات الاستفهام، قد يختصر سؤال رئيس "الحزب التقدمي الاشتراكي" وليد جنبلاط: إلى أين يتّجه البلد؟ وكيف سيُدار الفراغ في ظلّ مثل هذه الأجواء السوداوية؟!.

بالنسبة إلى المحسوبين على "التيار الوطني الحر"، لا يتحمّل رئيس الجمهورية مسؤولية الوضع "الشاذ" الذي وصلت إليه البلاد، بعدما أضحى الفراغ الرئاسي أمرًا واقعًا، ومثله يبدو الفراغ الحكوميّ، ولو أنّ بعض المفرطين في التفاؤل، لا يزالون يراهنون على احتمال حلّ الخلافات، وتشكيل الحكومة "المعلَّقة" في الدقائق الأخيرة من "العهد"، ولو أنّ الأمر أصبح أكثر من مُستبعَد، باعتبار أنّ ما عجز الوسطاء عن حلّه في ستّة أشهر، لن يُحلّ في ستّ دقائق.

يذكّر هؤلاء بأنّ الرئيس ميشال عون يحذّر منذ أكثر من عام، من الوصول إلى مثل هذا الأمر الواقع، وهو كان أول من دقّ "جرس الإنذار" قبل الانتخابات النيابية، حين قال إنّه لا يمكن أن يسلّم صلاحياته إلى "الفراغ"، فانهمك المزايدون في "تحليل" التصريح على أنّه "توطئة" لتمديد قال الرئيس مرارًا وتكرارًا إنّه لا يريده، فسعوا إلى منع هذا التمديد، من دون أن يمنحوا الجهد نفسه لأولوية تشكيل حكومة أصيلة تستطيع أن تحكم بالحدّ الأدنى المطلوب.

يشيرون إلى أنّ الرئيس عون بقي على موقفه بعد الانتخابات، ومثله فعله الوزير السابق جبران باسيل الذي رفض المضيّ بتسمية نجيب ميقاتي، محذّرًا سائر الفرقاء من مخطّط لدى الرجل بـ"عدم التأليف"، وهو الذي كرّسه أداء رئيس الحكومة المكلف بالفعل على مدى الأسابيع اللاحقة، خصوصًا حين "اعتكف" عن زيارة قصر بعبدا، لأسباب "سطحيّة" إن جاز التعبير، مرتبطة باتصال قاله إنّه "ينتظره" من دوائر القصر، لكنّه لم يأتِ.

ويسري الأمر نفسه على الملفّ الرئاسي، بحسب ما يقول المحسوبون على "التيار"، خصوصًا أنّ باسيل بقي حتى اللحظة الأخيرة يحاول التوصّل إلى تفاهمات تفضي لانتخاب رئيس "قوي"، بدليل زيارته في عطلة نهاية الأسبوع إلى بكركي ولقائه البطريرك بشارة الراعي، بيد أنّه كان يصطدم برفض مبدأ الحوار من القوى الأخرى، وخصوصًا "القوات اللبنانية" التي ذهبت في "شعبويّتها" لدرجة رفض استقبال وفد من تكتل "لبنان القوي" جال على مختلف الأفرقاء.

صحيح أنّ "رواية العونيّين"، إن جاز التعبير، تُقابَل بـ"روايات" بالجملة من الخصوم، الذين يتّهمون عون، ومن خلفه باسيل، بالمسؤولية عن "الفراغين" إن جاز التعبير، فالكلّ يدرك أنّ الحكومة كان يمكن أن تبصر النور في أيّ وقت، طبقًا لتصريح باسيل الشهير بأنّ "أي حكومة تبقى أفضل من لا حكومة"، وبالتالي كان بالإمكان "تعويم" الحكومة الحالية كأفضل الممكن، بدل وضع "الشروط التعجيزيّة" لمنع تشكيل حكومة جديدة بحجج وذرائع واهية.

وعلى مستوى الملف الرئاسي أيضًا، يرى خصوم "التيار" أنّ الأخير لم يلعب الدور الإيجابي، إذ بقي باسيل عمليًا "المرشح المستتر" الذي ينتظر "تحوّل" الظروف لصالحه، بدليل تكرار الرئيس ميشال عون أنّه "لا يرى غيره" صالحًا للمنصب، مقلّلاً من شأن العقوبات الأميركية عليه، وربما "الفيتو الداخلي" أيضًا، معطوفًا على إظهار باسيل "تعفّفًا" غير مقنع، طالما أنّه اقترن بفرض نفسه "ممرًا إلزاميًا"، ورفض أيّ مرشحين آخرين محتملين.

لكن، أبعد من تقاذف المسؤوليات وتبادل الاتهامات، وقد شهد اللبنانيون الكثير منها في الأيام الماضية، فإنّ العارفين يعتبرون أنّ المطلوب من الجميع، بدءًا من الآن، مقاربة مختلفة، تفاديًا لأيّ "مغامرات مجنونة" يوحي البعض بها، قد يكون منطلقها الذهاب إلى تعويم الحكومة بالدرجة الأولى، لو صدقت النوايا، وهو ما لا يبدو متوافرًا الآن، لكنّ أساسها يبقى خلق أجواء "صافية"، ولو بالحدّ الأدنى، بعيدًا عن المزايدات التي لا تقود سوى إلى المجهول.

ثمّة من يعتبر أنّ الحوار الذي قال رئيس مجلس النواب نبيه بري إنّه يعتزم الدعوة إليه، "أول الغيث"، لكن يبدو أنّه دخل بدوره في متاهات "جنون" هذه المرحلة، بعدما رفضه عون، باعتباره "صلاحيّة" لرئيس الجمهورية حصرًا، كما قال، ما أدّى إلى خلع برّي "قفازاته"، عبر مقدّمة "نارية" لـ"NBN" دعت فيها عون إلى أن "يرحل غير مأسوف عليه مع حاشيته وصهره"، وكلّها مؤشّرات تضع "مصير" البلد برمّته على كفّ عفريت، وربما أكثر!.