دَعانا اللهُ لِنكونَ قِدّيسين. هذا ما يَجِبُ أن يكونَ هَدَفُنا الأوَّلُ في مَسيرَةِ حياتِنا. فَفي كُلِّ قُدّاسٍ إلهيٍّ نَكونُ في شَرِكَةٍ مع القِدِّيسين، إذ إنَّنا نَذكرُ مَن نُعيِّدُ لَهُم حينَئذٍ. فقداسةُ القِدِّيسين هي مِنَ القُدُّوسِ الرَّبِّ يَسوعَ المَسيح.

قَبلَ مُناولة القُدُسات[1] في القُدَّاس، يَأخذُ الكاهِنُ الحَمَلَ المُقَدَّس (القُربان) بِكِلَتا يَدَيه، ويَرفَعُهُ راسِمًا بِه شَكلَ صَليب فَوقَ الصِّينِيَّة المُقَدَّسة المَوجودة على المائِدة في وسطِ الهيكل، يَحمِلُه عاليًّا ويَقولُ جِهارًا: "لِنُصْغِ، القُدُساتُ للقِدِّيسين"، فَتُجيبُه الجَوْقَة: "قُدُّوسٌ واحِدٌ، رَبٌّ واحِدٌ، يَسوعُ المَسيح، لِمجدِ الله الآب، آمين".

نَقرأُ في كِتابِ "تَفسير القُدَّاس الإلَهيّ[2]" شَرحًا مُفاده: "بإمكانِنا نَحنُ أن نُدعى قِدِّيسين، فَقط لأنّنا نَقتَبِلُ قَداسةَ الرَّبّ."، مُستشهِدًا بالقِدِّيس نيقولاوس كاباسيلاس (ق ١٤).

ما أرْهَبَ هذه اللحظة حيثُ نَتَقَدَّمُ جَميعُنا، مع كُلِّ ضُعُفاتِنا، لِنَتناولَ القُدُّوسَ يَسوعَ المَسيح. هوَ فَقط يَستطيع أن يَقول: "مَنْ مِنْكُمْ يُبَكِّتُني عَلى خَطِيَّةٍ[3]"؟.

هو مَجدُ الله الآب، لأنّه اللهُ الابنُ المتَّحِدُ باللهِ الروحِ القدس، وثلاثتُهم إلهٌ واحدٌ. لَقَد تَمَجَّدَ يَسوع بِصَلبِه وتَمَجَّدَت المَسكونةُ مَعه. هذا هو الفِداءُ العَظيمُ الذّي تَمَّمَهُ الرَّب لِخلاصِ جِنسِ البَشر.

كذلكَ نَقرأُ عِندَ بُولسَ الرَّسول آيةً تَجعَلُنا نَرتِعِدُ ما لم نَكُن في حالةِ تَوْبَةٍ صادِقة: "مَنْ أَكَلَ هذَا الْخُبْزَ، أَوْ شَرِبَ كَأْسَ الرَّبِّ، بِدُونِ اسْتِحْقَاق، يَكُونُ مُجْرِمًا فِي جَسَدِ الرَّبِّ وَدَمِهِ[4]".

ويُتابِعُ الرَّسول: "لِيَمْتَحِنِ الإِنْسَانُ نَفْسَهُ...لأَنَّ الَّذِي يَأْكُلُ وَيَشْرَبُ بِدُونِ اسْتِحْقَاق يَأْكُلُ وَيَشْرَبُ دَيْنُونَةً لِنَفْسِهِ، غَيْرَ مُمَيِّزٍ جَسَدَ الرَّبِّ"

"لِيَمْتَحِنِ الإِنْسَانُ نَفْسَهُ". هنا تَكمُنُ نِقطَةُ الفَصْل. لِهذا يُؤكِّدُ الرَّسولُ بولس: "إِنَّنَا لَوْ كُنَّا حَكَمْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا لَمَا حُكِمَ عَلَيْنَا"، أي لَما كُنّا قد سَقَطنا في الدَّيْنونَةِ حَيثُ لا مُحاباة للوجوه.

ما نَتناوَلُه، هوَ نَفسُه ما نُعلِنُه في بَدءِ صَلاةِ السَّحَر: "اللهُ الرَّبَ ظَهرَ لنا"، ونُتابِع: "اعتَرِفوا للرَّبِّ وادعوا باسمِه القُدُّوس". فَكيفَ لَنا أَن نَدعو باسمِه ونَحنُ في حَالةِ عِشقٍ للخَطيئَة ولذواتِنا بَدَل أن نكونَ "عاشقو البِرّ والله"؟.

ليسَ تَدميرًا لِحياتِنا مَع المَسيح أكثرَ مِن أن نَتَقَدَّمَ بِرَتابَةٍ إلى المُناولة الإلهيّة دُونَ إدراك حقيقةَ "مَن" نَتناوَله. وليسَ أفظَعَ لِخدمَتِنا الكهنوتيّة أكثرَ مِن أن نُقيمَ القُدّاسَ الإلهيَّ دونَ أن نَمتحِنَ أنَفسنَا، مُتَباهينَ بِمقامِنا ولِباسِنا وحُلَلِنا الكهنوتيّة وصَوتِنا الجَميل إن وُجِد، وتَرْدادِنا لأقاويلِ القِدِّيسينَ في عِظاتِنا، ومُخاطَبَتِنا الناسَ بالكلامِ المُنمَّق الذي حفِظناه في دِراستِنا للاهوت، أو في قراءتنا للكتبِ الروحيّة وتعاليمِ الآباء القِدِّيسين. وليسَ أكثرَ جَهالةً مِن أن نَغفِلَ عن أَنَّ كُلَّ هذه، إنَّما هي دينونةٌ لأنفسنِا حينَ لا نسعى بكلِّ صِدقٍ إلى فَحْصِ أَنفُسِنا على ضَوءِ الإنجيل مِن أجلِ تَغييرٍ جَذريٍّ لِذهنِيَّتِنا وَمَسلَكِيَّتِنا. هذه هي التَّوْبَة. فكلُّ ذَلِكَ لِكي يَتَمَجّدَ الرّبُّ فينا، لا لنَستَعمِلَ الرَّبَّ لِمَجدِنا الخاص الزائِل مَهما عَظُمَ.

أَدركَ الآباءُ القِدِّيسون العَظَمَة الإلهيّة هذه، فكانت حَياتُهم قُدّاسًا وذبيحةً مَرْضِيّةً لدى الرَّب على مَذبحِ الإنسانِ الآخَرِ، وَوَضَعوا نُصْبَ أَعينِهم ما قاله الرَّبُّ يَسوع للفرّيسين: "إِنِّي أُرِيدُ رَحْمَةً لاَ ذَبِيحَة"(متى ٧:١٢).

هذا ما وضَعهُ اللهُ أيضًا على لِسان هوشع النبيّ: "إِنِّي أُرِيدُ رَحْمَةً لاَ ذَبِيحَةً، وَمَعْرِفَةَ اللهِ أَكْثَرَ مِنْ مُحْرَقَاتٍ"(هوشع ٦:٦).

ليس أسهلَ مِن أَن نُقدِّمَ مُحرقاتٍ وذَبائح، وليسَ أسهلَ مِن أن نُصلّي بأصواتٍ رَنّانة. ولكنَّه ما أصعبَ أَن نُقدِّمَ رَحمةً ومَحبّةً وصِدقًا واستقامة، إذا لم نَكن نَعرِف الرَّبَّ بالروحِ والذِهنِ والقَلب. فَمِن أجلِ ذلك قالَ النبيُّ: "أريدُ مَعرِفةَ الله"، لأنَّ المَعرِفَةَ عن الله شيء، ومَعرِفَتَه شيءٌ آخر. فشَتّان ما بين الإثنتين.

التَّوْبةُ ثُمَّ التَّوْبةُ وثُمَّ التَّوْبة. فليسَ مِن طريقٍ آخَر لِنكونَ في عِدادِ القِدِّيسين الذين هُم في حالةِ تَوْبَةٍ دائِمة. القِدِّيسون هم "التائبون". هذا ما تُعلِّمنا بِه الكنيسةُ مِن خلالِ سِيَرِ القِدّيسين.

عَودةٌ إلى "القُدُسات للقِدّيسين"، الخِدمةُ واضحة، فَقَبْلَ أن يُعلِنَها الكاهِنُ، يَسجُدُ ثلاثَ مَرّاتٍ وهو يَقول بِصوتٍ خافِت: "يا الله اغفر لي أنا الخاطئ". وما أن يَطلُبَ الكَاهِنُ مِن عُمقِ أعماقِ قَلبهِ المَغفِرَةَ مِن الله، يُصَرِّحُ قائلًا: "أرفَعُكَ يا مَلِكي وإلهي"، فيتابِع بَعد ذلك ما ذَكَرناه أَعلاه.

رَفْعُ الكاهِن للحَمَلِ يُشيرُ إلى رَفعتِنا أيضًا، أي قيامَتِنا مِن جَحيم خطايانا، لِهذا يَرسُم الكاهِنُ بِيدَيهِ شَكلَ الصَّليب، الذي عليه انتصرَ الرَّبُّ يَسوع على الموت. فقِيامَتُنا تَحصَلُ بعدَ صَلْبِ أهواءنا: نُميتُها لنولَد مع الرَّبِّ خَليقةً جَديدة.

خُلاصة، يَقولُ القَدِّيسُ باسيليوسُ الكبير (ق٤)، إنَّ مُشارَكَتَنا الحَقيقيّةَ في القُدّاس الإلهيّ، هي في أن نَفتحَ قَلبَنا ليَحِلَّ الروحُ القُدسُ عليه كما يَحِلُّ على القَرابين.

أليسَ هذا ما يَطلبه الكاهِن في صلاة الأنافورا (تقدِمَة القرابين): "نَطلُبُ ونَضرَعُ ونَسألُ، فأَرْسلْ روحَكَ القُدُّوسَ علينا وعلى هذه القرابين الحاضِرة[5]".

نِهاية، يَقولُ القِدِّيس يُوحنّا الذَّهبيُّ الفم[6]: "يَقِفُ الكاهِنُ مُنتصِبًا وَسَطَ ذَلِك السُّكوت الرَّهْيب، ويَقول: القُدُسات للقِدِّيسين"، ويُتابِع: "القِدِّيس ليسَ مَن غَابت عَنهُ الخَطيئة، ولكنَّه مَن كان الروحُ القُدسُ حاضِرًا فيه". هذا الروحُ هو الذي يَدفَعُنا إلى التَّوْبة. وهذا ما يُخبرُنا إيّاه كِتابُ تَعاليمِ الرُّسُلِ الاثني عَشَر[7]: "مَن كان قِدِّيسًا فَليُقبِل، ومَن لم يَكُن فَلْيَتُبْ، ماران أثا[8]، آمين".

إلى الرّبِّ نَطلُب.

[1]. جَسدُ الربِّ ودمُه المقدَّسَين والكريمَين.

[2]. كتاب "تفسير القدّاس الإلهيّ" لرئيس دير القدّيس بولس – آثوس – تعريب المتروبوليت سلوان (موسي) – منشورات دير سيّدة البلمند البطريركيّ - ١٩٩٩.

[3]. يوحنّا ٤٦:٨

[4]. ١ كورنثوس ٢٧:١١-٣١

[5]. كتابُ خدمة الكاهن – إعداد البطريرك يوحنّا العاشر – ص ٢٣٢.

[6]. Ibid(المرجع نفسه أعلاه).

[7]. "الذيذاخي كلمة يونانيّة تعني تعليDidache " أو "تعاليم الرسل الاثني عشر" كتيّب صغير أُلِّفً بين عامَي ١٠٠ و١٥٠م. كاتبه غير معروف. يبدو من أسلوبـه ومضمونـه أن مؤلّفه سوري ينتمي الى جماعـة مسيحيـّة من أصلٍ يهودي.

[8]. تَعالَ أيّها الرَّبُ يَسوع.