عَلى وَجهِ الضَبطِ لبنان حَقيقَةٌ. عَقلانِيَّةٌ وَعاطِفِيَّةٌ في آنٍ. لا تَسوِيَةَ مِن خَلفِ زَمانٍ. والحَقيقَةُ دَوماً حَجَرُ الزاوِيَةِ بَينَ المَعنى والمَبنى، حَيثُ الإعتِرافُ واجِبٌ كَفِعلِ تَحضيرِ أيِّ خلقٍ يَقظاتٍ حَضارِيَّةً حاضِرَةً، تَواصُلاً وَرُسوخاً.

قَد لايَكونُ في شراسَةِالحِقدِ شَيءٌ مِنَ الشَجاعَةِ. لَيسَ هَذا بِمُهِمٍّ لِلبنان،لِأنَّ أهَمِيَّةَ حَقيقَة لبنان هيَ في قُدرَةِ تَحويلِ الظُلمَةِ الى ذاكَ النورِ الذي، فَوقَ التَنظيراتِ، يُدرِكُ في مُهَمَّشي الصَيرورَةِ التاريخِيَّةِ صورَةَ الإلَهِ الذي يَخلُقُ مِنَ العَدَمِ: إلَهَ الضُعَفاءِ، المَقهورينَ، المَرميِّينَ.

بَذَلِكَ لبنان-الحَقيقَةُ خَلَّاقٌ، يَعيشُ بِـ"ضُعفِهِ" وَيَنتَصِرُ على الَذينَ، بِسَطوَتِهِم يَتَصوَّرونَ أنفُسَهُم أقوياءَ، قاهِرينَ. وأكثَرُ، يؤَكِّدُ لِذاتِهِأوَّلاً، أنَّهُ جَديرٌ بالحَياةِ، لا يُتَجاوَزُ، لِكَونِهِ يَهزِمُ الإنهِزامَ بالعَدَمِ الَذي يُريدُهُ لَهُ مَن إتَّخَذَ مِنَ القوَّةِ البائِسَةِ عَبادَتَهُ.

مِن مُنطَلَقِ هَذِهِ الحَقيقَةِ، يُدرِكُ لبنان أنَّهُ لَيسَ مُجَرَّدَ وِراثَةٍ ذِهنِيَّةٍ آيلَةٍ الى إندِثارِ، كَمِثلِأيِّ إقطاعِيَّةٍ مَتى بَلَغَت عُقمَها. وما إنتِصارُ لبنان وَتأبُّدَهُ مُنذُ تأزَّلَ، إلَّا إنِتصارُ حَقيقَتِهِ على لاحَضاراتِ الصَو تِ المَكبوتِ والضَميِر الغائِبِ. إنتِصارُهُ مُعَمَّدٌ بِدَمِهِ. نَقيضُ كُلِّ ذُلٍّ... إذ ذاكَ لا يُمكِنُإلَّا أن َيكونَ بَهاءً لأنَّهُ مُنبَعِثٌ مِن وِحشَةِ المَوتِ.

وَهَكَذا سَيَكونُ لِلبنان، عِندَ طَيِّ كُلِّ صَفحَةٍ مِن صَفَحاتِ التاريخِ المُتَحَضِّرِ، أيِّ الضارِبِ في الحاضِرِ، أواتي بالحَقيقَةِ، لأنَّه يَلِدُ مُستَقبَلاً إنسانِيَّاً. فلبنان الَذي دَفَعَ مِن حَياتِهِ ثَمَنَ المُستَقبَلِ قَد خَطَّ آفاقاً لإنسانِيَّةٍ حَضارِيَّةٍ، لَهُ و...لأعدائِهِ. وَهَذِه ِجُرأة ان يَكونَ لِلمَوتِ كَمَبنىً بُلوغَ ذُروَةِ المعنى، والعَكسُ صَحيحٌ.

تِلكَ الحَقيقَةُ-لبنان هيَ الرَجاءُ المُتَكَثرِنُ الموَحِّدُ، النازِلُ مِنَ السَماءِ لأهلِ الأرضِ، بَل جَوابُ السَماءِ المُتَناغِمُ مَعَنِداءِ الأرضِ. أبِذَلِكَ لبنان "ضَعيفٌ" على ما يَتَسابَقُ الجامِزونَ نَحوَهُ بِ"قوَّتِهِمِ" على الإستِهزاءِ بِهِ، وَقَد ساقوهُ الى مَحاكِمِهِم وأدانوهُ دونَما أيِّذّنبٍ إقتَرَفَهُ؟.

فَهوَ لَم يُحوِّل العالَمَ الى مَراجِلَ فَوقَ نارٍ في غَلَيانِ، وَلا جَعَلَأبناءَ البَشَرِ يَتَراصَفونَ قُبالَةَ بَعضِهِم في مواجَهاتٍ تُناطِحُ الحواضِرَ بِعداواتِ مَواضٍ مُزَوبِعَةٍ.

شَعشَعانُ القُوَّةِ

لا! لَيسَ لبنان "ضَعيفاً" بِمَنطِقِ مُستَذئِبي السَطواتِ في نُزوعِها الى صِراعيَّاتٍإلغائِيَّةٍ لِلحَقيقَةِ. وَلأنَّ الحَقيقَةَ هيَ لبنان، فَلبنان قَوِيٌّ بِهِذا "الضُعفِ" الذي يَلوكونَهُ لَهُ.

وَشَعشَعانُ قَوَّتِهِ في الزَمانِ. هوَ أبتَدَعَهُ، مُذ إبتَكَرَ الحَرفَ تَجريدَ تَحَضُّرٍ، وَمُذ دَوَّنَ سَنخوني أتُن، إبنُ بيروت، أوَّلُ مؤَرِّخي المَسكونَةِ، أولى حولِيَّاتِ التاريخِ، مُرَتِّباً فيها الأحداثُ، مِثلَما في المَكانِ تَتَسَيَّدُ العَناصِرُ.

وَيَنطَلِقُ الزَمانُ صَفَحاتٍ مُصاغَةً بأحرُفِ أفعالٍ، والحَقيقَةُ-لبنان تُهدي الى ما يَجِبُأن يَكونَ، لِكَيما يُصبِحُ الوجودُ ذُروَةَ الوجودِ. وَلِلتَوضيحِ: العَقلانِيَّةُ والعاطِفِيَّةُ توصِلانِ الى جُزَئِيَّاتٍ مِنَ الحَقيقَةِ، لَكِنَّ لبنان-الحَقيقَةَ يِبلُغُ ذُروَةَ الحَقيقَةِ، تَماماً كَما المَسيحُ-الكَلِمَةُ، وَهوَ الله، يَتَكَلَّمُ عَلى الله.

أمَّا وَقَد بَلَغَ لبنان هَذِهِ الذُروَةَ، بِهِ وِلأجلِأولَئِكَ الخائِرينَ، باتَ وَحدَهُ رَجاءً لأنَّه يَعرِفُ الله الذي مِنهُ.

مِن دونِهِ، كُلُّ الكُلِّ، مِن دونِ لُبابٍ، هَلوعٌ يَصوغُ إختِلالَ توازُنٍ بَينَ كُلِّ مِعنىً وَمَبنىً... وَيَلوكُ هَزائِمَهُ إستِقواءً مِن فَراغٍ.

"ضُعفُ" لبنان هَزيمَةُ الكُلِّ. هوَ الساكِنُ في قوَّتِهِ هَذِهِ، يَسخَرُ مِنهُمُ... وَقَد كَلمَنَ الحَقيقَةَ التي صارَها.

ألَم يَقُل يَوماً فاتِسلاف هافِل أنَّأقوى قوَّةٍ هي لِلَذينَ لا قوَّةَلَهُمُ؟.

(تَحِيَّة الى فاتِسلاف هافل في ذِكرى وفاتِهِ)