مُذ تَورَخَ ​لبنان​ الدُهورَ وإحتَرَفَ غِوايَةَ الرُنوِّ الى الخُلودِ، وَهوَ مَيَّزَ أفعالَ الإيمانِ عَن حُكمِ مَدائِنَ البَشَرِ. مِن هَذا التَميِّيزِ كانَت صَرخَةُ اولبيانوس الذي مِن صورَ أنَّهُ بإسمِ الحَقِّ الطَبيعيِّ يولَدُ البَشَرُ أحراراً وَمُتَساوينَ، لأنَّ جَوهَرَ البَشَرِ واحِدٌ، فَلا إستِعبادَ لأحَدٍ مِن آخَرَ.

أهَذِهِ عَقيدَةٌ؟ بَل أكثَرَ: ذُروَةُ الإيمانِ في فِعلِ حُكمٍ. لَكِنَّ البَشَرِيَّةَ تأخَّرَت عَنها سَحابَةَ ألفَي سَنَةٍ، قَبلَ أن تُكَرِّسَها في "الإعلانِ العالَميِّ لِحُقوقِ الإنسانِ" الَذي صاغَهُ شارل مالك... الَذي مِن لبنان. أنَسينا أنَّ مَدائِنَ لبنان-المَمالِكَ، ما كانَ فيها عبيدٌ، ولا طَبقيَّةٌ، وما كانَ فيها مُلوكٌ آلِهَةٌ أو أنصافُ آلِهَةٍ، بَل مُلوكها أنفُسَهُم كانوا مُنتَخَبينَ مِنَ الشَعبِ الَذي لَهُ الكَلِمَةُ الفَصلُ؟ هيَ نَماذِجَ صارَت في ما بَعدُ رَكائِزَ الديموقراطِيَّاتِ.

وَبَينَ مِثالِيَّةِ اولبيانوس وَميثاقِيَّةِ مالك، تأسيسٌ-ذُروَةٌ: المَسيحُ المُساويَ في شَخصِهِ الناسوتَ البَشَريَّ واللاهوتَ الإلَهيَّ، الصارِخَ مِن ذُرى مَلَكوتِ السَماواتِ الى أعاميقَ مَمالِكِ الأرضِ: "أُعطوا ما لِقَيصَرَ لِقَيصَرَ، وَما لله لله!" قُلتُ: تأسيساً؟ هوَ مُنطَلِقٌ مِمَّا بَلَغَتهُ مَقاييسُ العَقلِ الُلبنانيِّ مِن تَجريدٍ إبتَدَعَ مَعَ الحَرفِ مُقارَعَةَ غَياهِبَ الجَهلِ وَظَلامِيَّاتِ الغَرائِزيَّاتِ. وَقُلتُ: ذُروَةً؟ هوَ بالِغٌ قيمَةَ المِعنى: أنتَ لا تَموتُ وَهَذا مِعنى الحَياةِ، وأنتَ تَحيا وَهَذا مِعنى المَوتِ.

في تِلكَ السَحابَةِ، أنواءٌ وَهَيَجانُ أنواءَ مِن تَوَحُّشٍ وَدَمٍّ وَعُبودِيَّةٍ عَلى إمتِدادِ الأرضِ، وأسماءُ طُغاةٍ تألَّهوا وَديكتاتورِيَّاتٍ، مَنظورَةً، مُبهَمَةً أو مُلتَبِسَةً بِمُخادَعاتِ الأضاليلَ، مارَسَت أبشَعَ صُنوفِ إقصاءِ الله كَجَوهَرٍ لِلإنسانِيَّةِ الحَقَّةِ، والإنسانِيَّةَ كَجَوهَرٍ لِلوجودِ لِكَي تَتَأبَّدَ في العِلَّةِ المُتَجَسِّمَةِ الظُلمَ واسِطَةً وَغايَةً، عَلَيهِما يَقِفُ الزَمانُ والمَكانُ.

أعودُ الى البَدءِ.

قُلتُ: تَميِّيزاً بَينَ الإيمانِ والحُكمِ. وَأُشَدِّدُ: في جَوهَرِ الإيمانِ الحَقِّ رَسولِيَّةٌ مَكفولَةٌ بالحُرِيَّةِ. وَفي جَوهَرِ الحُكمِ الحَقِّ رَسولِيَّةٌ مَكفولَةٌ بالخِدمَةِ وَهيَ تَحُرُّرٌ. فَلا المؤمِنُ عِلَّةُ ذاتِهِ، وَلا الحاكِمُ إلَهُ ذاتِهِ. كَلاهُما جَوهَرٌ لِوجودٍ، وَمَعاً يَتآلَفانِ في المِعنى والمَبنى كَما التَجريدُ والكَلِمَةُ، كَما القوَّةُ والفِعلُ، كَما... الَلهَبُ في النارِ ليُعطيَ دِفئاً لا حَريقاً.

أينَ الخَطَرُ؟

يَقِفُ لبنان اليَومَ عارياً أمامَ حَقيقَتِهِ. الظُلمُ السالِبُ داهَمَهُ لا مِن خارِجَ فَحَسبُ لأنَّهُ الإستِثناءُ، بَل مِن داخِلَ وَهَذا جَهارُ نَكَدٍ أخطَرُ. ذاكَ يَستَسعِرُ سَلبَهُ الظاهِرَ، وَهَذا يَستَميتُ في سَلبِهِ خَيرَهُ. ذاكَ بإسمِ الحِقدِ وإلغائِيَّاتِهِ، وَهَذا بإسمِ التَقويضِ وَتَهاوناتِهِ. ذاكَ فارِغٌ مِنَ العَقلِ، وَهَذا مِنَ الإيمانِ. كِلاهُما مُنسَجِمٌ مَعَ الآخَرِ في أن يَكونَ كُلُّ أحَدٍ مُتألِّهاً نَهجاً، وَمُعَطِّلاً لِلحُرِيَّةِ مَسلَكاً. كِلاهُما مُلحِدٌ... يَبغي فَرضَ إلحادِهِ المُتَلَبِّسِ عَباءاتِ التَحَزُّبِ لإلَهٍ دَيّانٍ، لإستِعلاءِ نَسَبٍ، لِسَطوَةِ سِلاحٍ، لِذَريعَةِ حُقوقٍ، لِشَهوَةِ تَسَلبُطٍ... وجوبٌ آمِرَةٌ لِأمرٍ واجِبٍ: القَضاءُ عَلى لبنان في ما هوَ... بَعدَما نَصَّبا نَفسَيهِما بَديلاً.

لا حَيادَ إزاءَ الإمعانِ في إعدامِ لبنان، في ما هوَ تَميِّيزٌ لِسَماكَةِ وجودٍ وَمساواةٌ بَينَ الإيمانِ والنِظامِ، في فَصلٍ واعٍ لِصِدقِ تَأنسُنِ الحِياةِ.

إنَّ النِضالَ حَصرِيَّةُ وجوبٍ لإبقاءِ هَذا اللبنان قائِماً حَقَّاً، لا سيَّما بَعدَما إلتَجأ الخارِجُ الى الداخِلِ والداخِلُ الى الخارِجِ، وأستَدرَجَ كِلاهما العَقيدَةَ سياسَةً والسياسَةَ إمعانُ حَذفٍ، أيّ مُجاذَباتُ إستِعبادٍ وَدَعاماتُ مَغانِمَ.

واقِعِيَّةُ لبنان أنَّ مَناقِبِيَّتَهُ الخَلَّاقَةُ هيَ إستِصراخُ ذا النِضالَ الَذي جادَ بِهِ. هَلَّا لَبَّيناهُ... مِن دونِ مُساوَمَةٍ؟.