في البَدءِ، لبنان مَسيحانيٌّ، وَلا يُمكِنُ أن يَكونَ غَيرَ ذَلِكَ. وَمَسيحانِيَّتِهِ تَعني اوَّلاً حَملَهُ الخَلاَص نِعمَةً لِلتَحريرِ مِن تَلاغِيَّاتِ السُقوطِ والإندِحارِ، وتَالياً تأكيدَ قَصدِهِ المَسيحيِّ الَذي هوَ في صُلبِهِ.

ألِذَلِكَ هوَ في ضَميرِ اللهِ لا بَل هوَ قَلبُ اللهِ، عَلى ما يَعني إسمُهُ في الآرامِيَّةِ، لُغَةَ المَسيحِ؟ في السؤالِ الإعتِرافُ أنَّهُ فَوقَ الزَمَنِيَّاتِ، وأبقى مِنَ الدُنيَوِيَّاتِ. تِلكَ تَتَقَلَّبُ، وَهَذِهِ تَفنى. أمَّا هوَ فَما مِن قادِرٍ عَلى تَطويعِهِ او إخضاعِهِ.

أولَئِكَ الَذينَ إتَّخَذوا لِسَطوَتِهِم طُقوساً، وإستَجلَبوا ذَبائِحَ مِن بَشَرٍ وأوطانٍ، وإستَعلوا جُثَثَ ضَحاياهُم عُروشاً لَهُمُ، لَجأوا إلى أعنَفِ عُنصُرِيَّاتِ الظَلامِ، وَهيَ أضمَنُها في ظَنِّهِمِ، ليَقضوا عَلَيهِ... لأنَّهُ نَقيضُهُم وَكاشِفُهُم. أَأُكَرِّرُ أنَّهم زالوا، وَما وَرِثوهُ؟ سأكتَفي بِأنَّهُم ما إستَكانوا، وَها هُمُ اليَومَ يَرفُضونَهُ بَعدَما ألصَقوا بِهِ ما بِهِم مِن مَضامينَ السَلبِ.

وَبَعدُ! لبنان لَيسَ مُجَرَّدَ تَرويساتِ فَضائِلَ وَقِيَمَ. الحَقَّ الحَقَّ أنَّ عَظَمَتَهُ في تَنقيباتِهِ المُتَجَسِّدَةِ لا بَتَدَيُّينٍ عابِرٍ أو باطِلٍ بَل بإيمانٍ مُنطَلَقُهُ الحُرِيَّةُ وَبُلوغُهُ القيامَةُ. والصِراعُ اليَومَ عَلى شَخصِيَّتِهِ هَذِهِ. تَلكَ تَحديداً الَتي، دونَ سائِرِ عُصاراتِ العالَمِ القَديمِ وأُمبراطورِيَّاتِهِ الماحِقَةِ لِلكَرامَةِ البَشَرِيَّةِ دائِسَةٌ لِذَلِكَ بَعضَها البَعضُ، أعَدَّتِ الطَريقَ لِمَجيءِ المَسيحِ.

أيُّ مَسيحٍ؟ لا ذاكَ الَذي أنشَدَهُ زَكَرِيَّا: "يُخَلِّصُنا مِن أعدائِنا وأيدي جَميعِ مُبغِضينا"، لِنَتَنَعَّمَ بِسَطوَتِنا... بَل مَن أنشَدَتهُ مَريَمُ: "الَذي شَتَّتَ المُتَكبِّرينَ، وَحطََّ الأقوِياءَ عَنِ العُروشِ، وَرَفَعَ الوضَعاءَ، وأشبَعَ الجِياعَ، والأغنِياءَ صَرَفَهُم فارِغينَ."

مَسيحُ مَريَمَ هوَ الآرامِيُّ الصارِخُ، بالآرامِيَّةِ، الطوبى: لِلمَساكينَ، لِلحَزانى، لِلرُحَماءِ، لِأنِقياءِ القُلوبِ، لِلمُضطَهَدينَ، لِلمَطرودينَ، لِصانِعي السَلامِ.

مَسيحُ مَريَمَ: ثَورَةُ اللهِ عَلى مُتألِّهي البَطشِ، وَبَني آدَمَ الماكِرينَ، والتَدَيُّنِ الفارِغِ.

الجُغرافيا الثالوثِيَّةِ

مَسيحُ مَريَمَ، بِمَسيحانِيَّتِهِ الُلبنانِيَّةِ، هوَ الَذي يَختَبِرُ الحُرِيَّةِ المُحَرِّرَةَ، وَلا يُدخِلُ في التَجارِبَ.

ها هوَ بِذَلِكَ وَجهاً لِوَجهٍ أمامَ المَرأةِ الُلبنانِيَّةِ الَتي طالَعَتهُ صارِخَةَ مِن نَواحيَ صورَ وَصَيدا، وَقَد أتى إليها حاجَّاً لِخُصوبِ مَدارِكَها بَعدَما سَئِمَ عُقمَ اليَهودِ: "يا إبنَ دَاودَ إرحَمني... أبنَتي يَتَخَبَّطُها الشَيطانُ"!.

بِتَضَرُّعٍ، مَسَحَتهُ مَلِكاً مِن نَسلِ المُلوكِ وإلَهاً وَحدَهُ مانِحُ الرَحمَةِ. وَحدَهُ المُخَلِّصُ مِن ظَلامِيَّاتِ الشَرِّ. وَهوَ أدرَكَ أنَّها كَرَّسَتهُ سَيِّدَ الحَياةِ. المُحَرِّرَ. وَحدَهُ. فإمتَحَنَ حُرِيَّتَها، مُدَّعِياً أنَّهُ لَيسَ آتٍ لِصِغارِ الكِلابِ. الكِلابُ؟ بَشَرُ الأرضِ غَيرَ اليَهودِ؟ هيَ المَرَّةُ الوَحيدَةُ الَتي إستَخدَمَ فيها تَعابيرَ اليَهود. ما أرادَ إسكاتَها. شَحَذَ أعتِرافَها. أدرَكَت. سَبَقَتهُ: "أنا لا أبغي إقصاءَ المَدعُوِّينَ الى المائِدَةِ. الكِلابُ أرتَضيها، كُرمى لَكَ. وَكالكِلابِ، مِنكَ أنتَ، أبتَغي فُتاتَ المائِدَةِ".

أفحَمَتهُ ثالوثِيَّةُ إعتِرافِها: الحُرِيَّةُ، الإيمانُ، الحَياةُ. مِن أيِّ قِمَّةٍ مِنها إنطَلَقتَ، لاقَيتَ القِمَّتَينِ الباقيَتَينِ. صَرَخَ لَها: "ما أعظَمَ إيمانَكِ... الَذي خَلَّص إبنَتَكِ"!.

وَسيَأتي بَعدَ ألفَي عامٍ، خَليفَةُ بُطرُسَ، البولونِيُّ، ذاكَ المَسيحانِيَّ الآخَرَ لِيُعَلِّمَ أنَّ بَينَ تِلكَ الُلبنانِيَّةِ وَمَريَمَ قَرابَةٌ روحِيَّةٌ لَيسَت لِأيِّ إمرأةٍ في الكِتابِ المُقَدَّسِ.

تِلكَ الُلبنانِيَّةُ. مَعَها إكتَمَلَت ثالوثِيَّةُ جُغرافيا لبنان المَسيحانِيَّةِ: قانا، الإرسالُ. سَفحُ حَرَمونَ، السَيرُ نَحوَ العُمقِ مَعَ إعتِرافِ بُطرُسَ: أنتَ إبنُ اللهِ الحَيِّ. وَنواحيَ صورَ وَصَيدا، الإبحارُ إلى أقاصِيَ المَعمورَةِ.

... إذا كانَ الكَونُ، بِما يُرى مِنهُ وَلا يُرى، هَيكَلَ المَسيحِ-اللهِ، فَلُبنانُ قُدسُ أقداسِهِ، شاءَ مَن شاء وأبى مَن أبى!

مِنَ البَدءِ، وإلَى الأزَلِ...