النُّورُ دِفْءٌ، والظُّلْمَةُ صَقيع. النورُ إشراقٌ، والظُّلْمَةُ عَتمة. النُّورُ سماءٌ، والظُّلْمَةُ جَهنَّم. النُّورُ حياة، والظُّلْمَةُ موت. النُّورُ تَوبةٌ وولادةٌ جديدةٌ بالرَّب، والظُّلْمَةُ إصرارٌ على الخطيئة وهلاك مع الشرّير. النُّورُ ارتفاعٌ وارتقاءٌ، والظُّلْمَةُ انحدارٌ وسقوط.

باختصار، النُّورُ هُوَ يَسوع والظُّلْمَةُ هي إبليس. فلا عجبٌ إذًا أن يُدعى عيدُ الظُّهورِ الإلهيّ "عيد الأنوار[1]"، لأنّه عيدُ أوّلِ كشفٍ ثالوثيٍّ لنا نحن البَشر: صوتُ الآبِ السَّماويّ، حضورُ الابنِ الإلهيّ، والروحُ القدس بهيئةِ حمامَة. هذا الكشفُ الإلهيّ هو إعلانٌ نُورانيٌّ وخَلاصيٌّ للبشر. إنّه عيد إعلان الحقيقة الإيمانيّة الإلهيّة التي تنير.

ثلاثتُهم معًا يقولونَ لنا إنَّ مشيئةَ الثالوثِ القدّوس هي خلاصُ البشر أجمعين. إنَّ تجسّدَ اللهِ هو مشيئةٌ ثالوثيَّة، وكذلك ظهورَه بالجسد في عيد الميلاد المجيد، وصلبَه وقيامتَه وإقامتَه لنا مِن بين الأموات، وصعودَه وإرسالَه لنا الروح القدس في العنصرة.

فما أجمَلَ إذًا أن تَكونَ مَسيرتُنا البشريَّة على هذه الأرض غيرَ منفصلةٍ عن هذه المشيئةِ الثالوثيّة النورانيّة والخلاصيّة!.

قال الرّبّ لليهود: «أَنَا هُوَ نُورُ الْعَالَمِ. مَنْ يَتْبَعْنِي فَلاَ يَمْشِي فِي الظُّلْمَةِ بَلْ يَكُونُ لَهُ نُورُ الْحَيَاةِ.» (يوحنّا ١٣:٨).

قولُ يسوع هذا ليس فقط لليهود فحسب، بل للعالم بأسره. انتظرَ اليهودُ المسيحَ أن يأتي، ولكن على طريقتهم. وعندما أتى رفضوه وصلبوه وقتلوه، لأنّهم ساروا في ظُلمة أنانيَّتهم وكبريائهم.

هل هذا الانحرافُ ينطَبِقُ على اليهود فقط؟ بالطبع لا، إنَّه يَنطبِقُ على كلِّ مَن يُفصِّلُ المسيحَ على مُقاسِه، ورغباتِه وأهوائِه وضعفاتِه.

لقد أبدعَ الإنجيليُّ يوحنّا بقولِه: "إِلى خَاصَّتِهِ جَاءَ، وَخَاصَّتُهُ لَمْ تَقْبَلْهُ." (يوحنا ١١:١). هذا قولٌ رهيبٌ يجعلُنا نرتَجفُ حينَ ندرِكُ معنى هذا الكلام.

هَلُمَّ نُعيدُ قراءةَ الحوارِ[2] الرائعِ الذي دار بينَ الرَّبِّ ونِيقُودِيمُوس، أحدِ كبارِ معلِّمِيِّ اليهود. نسمعُ يسوع يقول له: "إِنْ كَانَ أَحَدٌ لاَ يُولَدُ مِنْ فَوْقُ لاَ يَقْدِرُ أَنْ يَرَى مَلَكُوتَ اللهِ".

تَعجَّبَ نِيقُودِيمُوس وأجاب: "كَيْفَ يُمْكِنُ الإِنْسَانَ أَنْ يُولَدَ وَهُوَ شَيْخٌ؟ أَلَعَلَّهُ يَقْدِرُ أَنْ يَدْخُلَ بَطْنَ أُمِّهِ ثَانِيَةً وَيُولَدَ"؟.

إنَّ كلامَ يسوعَ سماويٌّ بينما جواب نِيقُودِيمُوس ترابيّ. فَشَتّانَ ما بينَ الاثنين. كم مِن مَرَّةٍ أرادَ يسوعُ أن يَرفَعَنا، فَتَمَسَّكنا بمنطقِنا الأرضيّ الضيِّق لأنّه يناسبنا!.

أعادَ يسوعُ كلامَه مُنتظرًا مِن نِيقُودِيمُوس أن يَفهَم، ولعلّنا نحن أيضًا معه نفهم، فقال له: "الْحَقَّ الْحَقَّ أَقُولُ لَكَ: إِنْ كَانَ أَحَدٌ لاَ يُولَدُ مِنَ الْمَاءِ وَالرُّوحِ لاَ يَقْدِرُ أَنْ يَدْخُلَ مَلَكُوتَ اللهِ. اَلْمَوْلُودُ مِنَ الْجَسَدِ جَسَدٌ هُوَ، وَالْمَوْلُودُ مِنَ الرُّوحِ هُوَ رُوحٌ." وتابَعَ: "لاَ تَتَعَجَّبْ أَنِّي قُلْتُ لَكَ: يَنْبَغِي أَنْ تُولَدُوا مِنْ فَوْقُ".

نظر يسوع إلى وجه نِيقُودِيمُوس فوجده مرتبك وتائه ومتعجّب، هو الذي قال: "كَيْفَ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ هذَا"؟.

عندها قال له يسوعُ: "أَنْتَ مُعَلِّمُ إِسْرَائِيلَ وَلَسْتَ تَعْلَمُ هذَا"!.

هنا بيتُ القصيد! فقد اعتاد نِيقُودِيمُوس، مثل سائر الفرّيسيّين ومعلّميّ اليهود والكتبة، أن يتكلّم مِن فوق وبسُلطان، والناسُ يُصغونَ إليه ويطيعونَه. كيفَ لا وهوَ المُعَلِّم!.

لكنَّ الوضعَ قد اختلفَ هذه المرّة. شعرَ نِيقُودِيمُوس أن الأدوارَ قد انقلَبَتْ رأسًا على عَقِب، فَأدرَكَ حينئذٍ أنّه تَعَرّى مِن كلّ ألقابه ومَقامِه ومركزِه وسلطتِه.

هذا تمامًا ما يُريدُهُ الرّبُّ منّا: أن نَتَعرّى بالكليّة مِن كبريائِنا وتشامخِنا وغطرستِنا وانتفاخِنا، فندخلَ معه مياهَ التجديدِ عُراةً كما خَلَقَنا تَمامًا، وذلك لنولَدَ مِن جديد بالماءِ والروح، وتشعَّ فينا مِن جديد صورةُ اللهِ التي أُظلِمت بالخطيئة. فنحن جميعُنا خطأة، وبحاجة لهذهِ الولادة الجديدة بدموع التَّوْبَة الصادقة.

هذا ما يُدخلُنا في قَصدِ عيدِ الظُّهور الإلهيّ، كما تُظهرُه هذه الأيقونةُ الرائعة مِن القرن الثالث عشر الميلادي، والمحفوظةُ في دير القدّيسة كاترينا في سيناء.

نشاهد الرَّبَّ في هذه الأيقونة عاريًا بالكليَّة. هو طبعًا ليس بحاجةٍ لأَن يعتمِد. وهذا معنى الآية التي تقول: "لَمَّا اعْتَمَدَ يَسُوعُ صَعِدَ لِلْوَقْتِ مِنَ الْمَاءِ"(متى ١٦:٣). فصعودُ الرَّبِّ الفوريِّ إشارةٌ لطهارتِهِ وعدمِ حاجتِه للاغتسال. هو يفعل كل هذا مِن أجلنا ويمثّلنا. هنا يشرح القدّيس أثناسيوس الكبير قائلًا: "عندما اعتمد يسوع، كنّا نحن الذين نعتمد معه"، لأنّه يريدُنا أن نكونَ أطهارًا.

كذلك يُناشِدنا بولسُ الرسول قائلًا: "جَمِيعُكُمْ أَبْنَاءُ نُورٍ وَأَبْنَاءُ نَهَارٍ. لَسْنَا مِنْ لَيْلٍ وَلاَ ظُلْمَةٍ"(١ تس ٥:٥). ويتابعُ: "فَلاَ نَنَمْ إِذًا كَالْبَاقِينَ، بَلْ لِنَسْهَرْ وَنَصْحُ".

هنا التحدّي الأكبر. الصَحوَةُ، التي هي مراجعةُ الذَّات على ضوءِ المسيح ونوره.

خرجَ يسوعُ مِن المياه وابتَدَأَ يُعلِنُ للجميع بشارَةَ الملكوت، بشارةَ المَحبَّة، بشارَةَ استنارَةِ الذِّهن، بشارَة الصِّدق، بشارَة تَغيير المَسار نحوَ المستقيم، بعيدًا عن كلِّ اعوِجاج. فهِيَ أيضًا بشارةُ الامتلاءِ من النور الإلهيِّ ونَقلِهِ إلى الآخَرين.

إنَّ يسوعَ هوَ نورٌ مِن نور، لهذا فأيقونةُ هذا العيد نورانِيَّة، وكلُّ ما تُظهِرُهُ هو نورانيّ. هي تحاكي قنداقَ العيدِ الذي يقول: "اليومَ ظهرتَ للمسكونة يا ربّ، ونورُكَ قد ارتسمَ علينا. نحن الذين نسبِّحُكَ بمعرفةٍ قائلين: لقد أتيتَ وظهرتَ أيُّها النُّورُ الذي لا يُدنى منه".

فمع الظُّهورِ الإلهيِّ تَتَجَدَّدُ الخليقةُ كُلُّها، كأَنَّنا بذلكَ نَقرأُ في أَوَّلِ إصحاحٍ مِن سِفر التكوين: "وَقَالَ اللهُ: "لِيَكُنْ نُورٌ"، فَكَانَ نُورٌ. وَرَأَى اللهُ النُّورَ أَنَّهُ حَسَنٌ. وَفَصَلَ اللهُ بَيْنَ النُّورِ وَالظُّلْمَةِ." (تكوين ٣:١-٤). ولَكن هذِه المرَّة مَبدَأُ النورِ وخالِقُهُ يَظهرُ لنا لينيرَنا.

هنا الخلاصة:

يذكّرُنا يسوعُ دائمًا بقَوله: "آمِنُوا بِالنُّورِ لِتَصِيروا أَبْنَاءَ النُّور"(يوحنا ٣٦:١٢). هذه دعوةٌ دائِمَةٌ للتَّوْبة. فالتَّوْبةُ الصادقةُ هي معموديَّةٌ جديدة وصيرورَة. ويريدُ أن نَعي أنَّ لا شرِكة بينَ النورِ والظُلمَة. فالفَصلُ بينهما قاطِعٌ ونهائيّ.

مَن يَعشقُ النورَ يمقتُ الظلام. والعكسُ صحيح، لأنَّ النورَ يكشِفُ أعمالَ الظُلمَةِ ويُوبِّخُها. فاللهُ نورٌ وحَقٌ، وَمَنْ يَفْعَلُ الْحَقَّ يُقْبِلُ إِلَى النُّورِ، لِكَيْ تَظْهَرَ أَعْمَالُهُ أَنَّهَا بِاللهِ قد تَمَّت.

نهاية، اللهُ ثالوثٌ وشرِكَةُ مَحَبَّة. فإن عِشنا هذِهِ الشَرِكَة وَأَحَبَبنا النور، نحيا بِما بَشَّرَنا بِهِ القِدّيسُ يوحنّا الإنجيليّ: "إن سَلَكْنَا فِي النُّورِ كَمَا هُوَ (الله) فِي النُّورِ، فَلَنَا شَرِكَةٌ بَعْضِنَا مَعَ بَعْضٍ، وَدَمُ يَسُوعَ الْمَسِيحِ ابْنِهِ يُطَهِّرُنَا مِنْ كُلِّ خَطِيَّةٍ"(١ يوحنا ٥:١).

وَمَنْ يَسْمَعْ فَلْيَقُلْ: "تَعَالَ"!(رؤيا ١٧:٢٢).

إلى الرَّبِّ نَطلُب.

[1]. هكذا كان يدعوه القدّيس غريغوريوس النزينزي (٣٢٩-٣٩٠م)

[2]. يوحنا ٣