كثيرونَ يَستغربون الحِوارَ الذي دار بين الرَّبّ يسوع المسيح والمرأة الكنعانيّة[1]، وتحديدًا حين شَبّهها بالكلاب، بعد أن طلبت إليه أن يشفيَ لها ابنتها التي كان يسكنها روحٌ نَجِس.

يتساءلون: هل يُعقَلُ أن يَتفَوَّهَ الرّبُّ بِهذا الكلام؟ هل حقّرها، لا سمح الله؟ هل أتى الرَّب مِن أجل شعبٍ دونَ غيره؟ هل عنده مفاضلة إثنيَّة أو عرقيّة أو مناطقيّة أو أي شيء شبيهٍ بذلك؟.

بالطبعِ لا. وَخيرُ جوابٍ على ذَلك عندما مَدحت امرأةٌ يَسوعَ قائلةً له: "طُوبَى لِلْبَطْنِ الَّذِي حَمَلَكَ وَالثَّدْيَيْنِ اللَّذَيْنِ رَضِعْتَهُمَا"، فأجابها: "بَلْ طُوبَى لِلَّذِينَ يَسْمَعُونَ كَلاَمَ اللهِ وَيَحْفَظُونَهُ[2]".

فلننتبه جيّدًا لجواب الرَّب. طبعًا هذا ليس انكارًا لوالدة الإله، أو عدم احترام لها، لا سمح الله، بل هو تأكيدٌ على أنَّ كلمةَ الله هي المعيارُ وليس آخرَ سواها، مع اليقين أنّه لا يوجد إنسانٌ آخر أكثر مِنها سمع كلامَ الرَّب وحفظه، وبالتالي هي أوّلُ مَن يَستِحقُّ مديحَه.

إذًا، ما كانَ قَصدُ يسوعَ مِن قَولهِ للمَرأَةِ الكنعانيَّة: "لَيْسَ حَسَنًا أَنْ يُؤْخَذَ خُبْزُ الْبَنِينَ وَيُطْرَحَ لِلْكِلاَب"؟ هذا عند متى الإنجيليّ، والأمر نفسه عند مرقس الإنجيليّ مع الإِضافة: "دَعِي الْبَنِينَ أَوَّلًا يَشْبَعُونَ".

قبلَ شَرحِ ما قالَهُ يسوع، لا بُدَّ أن نعرف أَمرًا مهمًّا جدًّا، وهو أنّ لقاءَه مع الكنعانيّة أتى بعد خروجه مِن أورشليم ومناقشته للفرّيسيين. حينَ أتى إليه كتبةٌ وفريسيّونَ يَلومونَه على عدم غَسلِ تلاميذه أيديَهم قبلَ الأكل، إذ كانوا يعتقدون في تقليدهم أنَّ هذا الأمرَ يُنّجِسُ الإنسان.

فما كان مِن يسوع إلّا أن نَهاهُم عن عِبادتِهم الخارجيَّة والشَكليَّة دون العِبادة القلبيَّةِ والروحِيَّةِ، وتَخلّيهم عن وصايا اللهِ المُقدَّسة، وتَمسّكهِم بِتَقاليد اخترعوها لأنفسهم. فوصفهم بالمرائين قائلًا: "يَقْتَرِبُ إِلَيَّ هذَا الشَّعْبُ بِفَمِهِ، وَيُكْرِمُني بِشَفَتَيْهِ، وَأَمَّا قَلْبُهُ فَمُبْتَعِدٌ عَنِّي بَعِيدًا". وتابعَ يقولُ: إنَّ الذي يخرج مِن فمنا هو ما ينجّسنا وليس العكس.

يُصوّبُ الرَّبُ دائمًا كلَّ انحراف، لأنَّ ما يَهمّه هو الصِّدْق. إنَّه لا يحابي الوجوه، ويحذِّرُ مِن الرِّيَاءُ قائلًا: "اُتْرُكُوهُمْ. هُمْ عُمْيَانٌ قَادَةُ عُمْيَانٍ. وَإِنْ كَانَ أَعْمَى يَقُودُ أَعْمَى يَسْقُطَانِ كِلاَهُمَا فِي حُفْرَةٍ".

بالعودةِ إِلى المَرأةِ الكنعانيّة. لقد صرخَت إِلى يسوع: "ارْحَمْنِي"! لكنَّه قصدَ الصَّمْت ليُعلّمَ تلاميذَه وَإِيّانا دَرسًا. طَلبَ التلاميذُ إلى يَسوعَ أن يَصرِفَها لأنّها "كانت تَصيح في إثرهم". لقد انزعَجوا مِنها، وأرادوا أن يَصرِفوها عَنهم. إذ انَّ صوتَ أَلمِها على ابنتها لَم يَجد طَريقَه إلى قلوبِهم.

العالَمُ بالنسبةِ إلى اليهود قِسمَان:

أوَّلًا: اليهود الذين يَعتبرون أنفسَهم أَعلى مرتبةً مِن كلِّ الناس.

ثانيًا: مَن ليسوا يهودًا، أيّ الأُمَم. ويَنعتونَهم اليهودُ بـِ"الكلاب"، بمعنى أنّهم أنجاس، فلا يُخالطونَهم كي لا يَتَنَجَّسوا.

عَلى صُراخِ الكنعانيَّة أجاب يسوع: "لَمْ أُرْسَل إِلاَّ إِلَى خِرَافِ بَيْتِ إِسْرَائِيلَ الضَّالَّةِ". فسَجَدَتْ لَهُ متوسّلة إليه أن يشفيَ لها ابنتها. فَأجابَها الرَّبّ: "لَيْسَ حَسَنًا أَنْ يُؤْخَذَ خُبْزُ الْبَنِينَ وَيُطْرَحَ لِلْكِلاَب". فَقَالَتْ: "نَعَمْ، يَا سَيِّدُ! وَالْكِلاَبُ أَيْضًا تَأْكُلُ مِنَ الْفُتَاتِ الَّذِي يَسْقُطُ مِنْ مَائِدَةِ أَرْبَابِهَا"!. فَمَدحَ الرَّب إيمانَها وَشُفِيت ابنتها مِن تلك الساعة.

في الواقع، لقد تَفَوّقَتِ الكنعانيّة على الفرّيسيين والكتبةِ اليهود بمسافات. هم قدّموا كبرياءً، أمّا هي فَتَواضُعًا.

ماذا يعني مجيءُ يسوعَ إلى نواحي صور وصيدا إلّا أَنَّه قد أتى إلى جميعِ الأمم! وهذا ما أوصى بِه تلاميذه بَعد قيامته: أن يُتَلمِذوا جميعَ الأممِ ويُعمِّدوهم بِاسمِ الثالوثِ القُدّوس.

إذًا، أتى الرَّبُّ مِن أجل كلِّ الأُمم. والكنعانيّة هي مِن الأُمم، ومَعنِيَّةٌ بالبشارة، ويَشمَلُها الخَلاص.

صحيحٌ أنَّ النبوءاتِ كانت عند الأنبياء اليهود، إلّا أنَّها لم تنحصرْ بِهم قَطّ. هذا ما نراهُ معَ دانيال عندما بشَّر نبوخذنصّر، وعند إشعياء النبيّ القائِل: "بَيْتِي بَيْتَ الصَّلاَةِ يُدْعَى لِكُلِّ الشُّعُوب" (إش ٧:٥٦).

هذا ما أكّده الرَّبُّ بعد شِفاءِ غُلامَ قائِدِ المِئَة فقال: "إِنَّ كَثِيرِينَ سَيَأْتُونَ مِنَ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِب وَيَتَّكِئُونَ مَعَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ" (متى ١١:٨). ومِسْكُ الكلامِ ما قاله يَسوعُ أنَّه سوفَ يَبذُلُ ذاتَهُ مِن أَجلِ حَياةِ العالم[3].

ما قَولُ الرَّبِّ أَنَّه أتى إلى "خِرَافِ بَيْتِ إِسْرَائِيلَ الضَّالَّة" إِلّا تأكيدًا على ضلالِ الذينَ كانَ لديهم النُبوءات، وَقد رَفضوا المسيح المنتَظَر.

أمّا جوهَرُ الموضوعِ فَيَكمُنُ في كلمة "كلاب" التي استعملها يسوع. فَبالرغمِ مِن أَنَّه قد استعملَ الوصف ذاته الذي لليهود عن الأُمَم، إلّا أنَّ كلمَةَ "كلاب" أتَت عنده مُغايِرَة! لقد استعمَلَ وَصفَهُم ليُبطِلَه.

للأسف، إنَّ الترجمةَ العربيّةَ الشائعةَ للإنجيل، لا تُعطي الكلمةَ الأصليَّة حقّها. فالنصُّ الأصليُّ اليونانيُّ يَستعملُ كلِمَة κυναρίοις / kinaris أيّ "الكلاب الصِّغار المُدَلَّلَة"، التي تعيش داخلَ المنازل، وَيهتَمُّ أصحابها بِها ويُحبّونها. بينما الكلمة التي كان اليهود يستعملونها عن الكلاب هي κύνας / kinas وتعني الكلابَ الشارِدَةَ التي تَبقى خارج المنازل.

إذًا الفرقُ كبيرٌ وشاسع، وَقَصْدُ يسوع مُختَلِفٌ تَمامًا عمّا كان يقصده اليهود. هذا واضح في الكتاب المقدّس. فعندما تكلَّم يسوع على "الكلاب" في عظته على الجبل: "لاَ تُعْطُوا الْقُدْسَ لِلْكِلاَب[4]"، استعمل كلمة kysin / κυσίν (kinas نفس الكلمة بغير تصريف).

كلُّ هذا كان تعليمًا كبيرًا لتلاميذه في بِداية رِسالتهم، فَهُم سيمتلئون مِن الرُّوح القدس لاحقًا، ويصيرون شهودًا ليسوع إلى كلِّ الأرض (أعمال ٨:١).

ربَّما لم تكن الكنعانيّةُ تعرفُ عُمقَ ما تَفَوَّهت بِه في بَدءِ استغاثتها بالرَّب: "ارْحَمْنِي، يَا سَيِّدُ، يَا ابْنَ دَاوُدَ"!. وربَّما أيضًا اعتبَرت أنَّ لَقَبَ "ابنَ داود" هو كباقي الألقاب. إِلّا أنَّ تواضُعَها الكبير الذي تَجلّى في جوابِها ليسوع: "الْكِلاَبُ أَيْضًا تَأْكُلُ مِنَ الْفُتَاتِ الَّذِي يَسْقُطُ مِنْ مَائِدَةِ أَرْبَابِهَا"! جَعَلَها ابنَةً للمسيح.

خِتامًا، هذا الإنجيلُ هوَ دينونَةٌ كبيرةٌ لنا، نحن الذينَ على وَشكِ الدخولِ في زمنِ التريودي، أي زمن الصوم الكبير.

فكلُّ مَرَّة نُحابي فيها الوُجوه، وَنُميّزُ بينَ الناس، دون وَجهِ حَقّ واستحقاق، ولسبب أنَّهم مِن خاصتنا، حينئِذٍ نكونُ مِن حِزبِ "الكلاب" الشاردة التي حذّر منها بولس الرسول: "اُنْظُرُوا الْكِلاَبَ kinas. انْظُرُوا فَعَلَةَ الشَّرّ" (فيليبي ٢:٣).

إلى الرَّبِّ نَطلُب.

[1]- متى ٢١:١٥-٢٨ ومرقس ٢٤:٧-٣٠

[2]- لوقا ٢٨:١١

[3]- "أَنَا هُوَ الْخُبْزُ الْحَيُّ الَّذِي نَزَلَ مِنَ السَّمَاءِ. إِنْ أَكَلَ أَحَدٌ مِنْ هذَا الْخُبْزِ يَحْيَا إِلَى الأَبَدِ. وَالْخُبْزُ الَّذِي أَنَا أُعْطِي هُوَ جَسَدِي الَّذِي أَبْذِلُهُ مِنْ أَجْلِ حَيَاةِ الْعَالَمِ". (يوحنا ٥١:٦)

[4]- "لاَ تُعْطُوا الْقُدْسَ لِلْكِلاَب، وَلاَ تَطْرَحُوا دُرَرَكُمْ قُدَّامَ الْخَنَازِيرِ، لِئَلاَّ تَدُوسَهَا بِأَرْجُلِهَا وَتَلْتَفِتَ فَتُمَزِّقَكُمْ" (متى ٦:٧).