"لقد رأَينا تَصويرًا كبيرًا جدًّا ورائعًا، في وسطِه ربُّنا يسوع المسيح، وعن اليسارِ (يمين السيّد)، تَقِفُ أمُّ المسيح، سيّدتُنا والدةُ الإله الدائمةُ البتوليّة، وعنِ اليمينِ (يسار السيّد) يَقِفُ السَّابق، الّذي عمّدَ مُخلّصَنا. كما يُوجَد، ليس بعيدًا عن هذا التّصوير، جوقةٌ مِن الأنبياءِ والرُّسُل، وجَمعٌ مِن الشُهداء، يجتمعونَ أمامَ هذا التّصوير، ساجدين ورؤوسهم منحنية، أمام الإله الوحيد[1]".

هذا ما كتبَه القدّيسُ صفرونيوس[2] بطريرك أورشليم (٥٦٠ - ٦٣٨م) أثناء إحدى أسفاره. والأغلب أن يكون قد شاهدَ هذا التّصوير في القسطنطينيّة.

قد يكون ما شَهدَ به صفرونيوس أقدمَ شهادةٍ على هذا النوعِ مِن التّصوير، يسمّى: "Deesis"، وهي كلمةٌ يونانيّة تعني التَضرُّع والصلاة. نشاهد فيها الأشخاص بشكلٍ نصفيٍّ، وقد دَرَجَت العادةُ أن تُسمّى باللغَةِ العربيَّة: "أيقونةُ الشَفاعَة".

نرى في هذا النوع مِن التَّصويرِ الرّبَّ يسوع في الوسَطِ جالسًا على العرشِ يومَ الدينونة، وحاملًا بيدهِ الإنجيلَ المُقدّس. ووالدة الإله والمعمدان يقفانِ عن يمينهِ ويساره، يُمثّلان البشريّة جمعاء، ويتضرّعان إليه ويتشفّعان مِن أجل كلّ الناس. وفي ابتهالهما يَعترفانِ بسِلطَتِهِ ومَجدِه، وَيشهَدانِ لألوهيَّته وَعَظَمتِه.

كانت والدةُ الإلهِ تقول: هذا هو الذي حَمَلتُهُ في أحشائي بالروحِ القدس. هذا هو مُخلّصي ومُخلّصُ العالم. هذا هو إلهي وإلهُكم. وهذا هو الّذي سبَّحتّه قائلةً: "رَحْمَتُهُ إِلَى جِيلِ الأَجْيَالِ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَهُ. صَنَعَ قُوَّةً بِذِرَاعِهِ. شَتَّتَ الْمُسْتَكْبِرِينَ بِفِكْرِ قُلُوبِهِمْ. أَنْزَلَ الأَعِزَّاءَ عَنِ الْكَرَاسِيِّ وَرَفَعَ الْمُتَّضِعِينَ." (لوقا ٥٠:١-٥٢).

أمّا القدّيس يوحنّا المَعمدان فكانَ يقول: هذا الذي رأيتُه وأشَرتُ إليه قائلًا: "هُوَذَا حَمَلُ اللهِ الَّذِي يَرْفَعُ خَطِيَّةَ الْعَالَمِ"! (يوحنّا ٢٩:١).

قد يَكون الإنجيلُ الذي يحملهُ الرّبُّ، مُغْلقًا أو مفتوحًا، وهو يُشير إلى أنَّ الدينونَةَ ستكون كما قالَ لنا: "مَنْ رَذَلَنِي وَلَمْ يَقْبَلْ كَلاَمِي فَلَهُ مَنْ يَدِينُهُ. اَلْكَلاَمُ الَّذِي تَكَلَّمْتُ بِهِ هُوَ يَدِينُهُ فِي الْيَوْمِ الأَخِيرِ" (يوحنا ٢٨:١٢).

أشهرُ تصويرٍ مِن هذا النوع هي الفسيفساء الموجودةُ في كاتدرائيّةِ "آيا صوفيا"، أي "الحكمة الإلهيّة"، التي تعود إلى القرن الثاني-الثالث عشر الميلادي.

هناك مَن يُعيدُ تاريخها إلى بِدايةِ القرنِ الثالث عشر، قبل الحملة الصليبيّة الرابعة، التي استولَ فيها الصليبيّون على القسطنطينيّة. ومنهم مَن يرجِّحُ تاريخها حوالي نصف القرن (١٢٦١م) بعد استعادة المدينة مِن الحملة المذكورة.

أيًّا يكن، فلهذه الفسيفساء جمالٌ مميّزٌ ومعنى لاهوتيٌّ عميقٌ جدًّا. إنّه اعترافٌ مِن السلطة الحاكمَة في القسطنطينيّة آنذاك، بأنّ أعلى سلطة هي سلطةُ المسيح الضابطُ الكل، والجميع بحاجةٍ إلى رحمته.

هذه الفسيفساء هي تحفةٌ فنيّةٌ مذّهَّبَةٌ بكلِّ ما للكلمِة مِن معنى، رغم أنَّ الإمبراطوريَّةَ كانت تمرُّ بحالة اقتصاديّة صعبة. فالوجوهُ تظهَرُ فيها منيرة وبهيّة، وتحمل الكثير مِن الرَّحمَة واللُطفِ والحَنان.

يبدو أنَّ فنَّ الفُسيفساء الروميّ قد وصل إلى ذُروتِه في تلك الحقبة، إنْ مِن ناحية الحجارة الصغيرة الحجم المستخدَمَة في الوجوه والأيدي، والتي تُعطي جودةً كبيرةً للعمل، وإن مِن ناحية التناسق والألوان والتِقنيّة.

كما أنَّ مكانَ وجودِها في الكاتدرائيّة يَسطَعُ عليها نورٌ طبيعيّ يدخلُ مِن النافذة الجانبيّة، ممّا يجعلها تبدو وكأنَّها نافذةً إلى الملكوت. كما أنَّها تَجعَلُ الناظر إليها يَشعرُ وكأنّه واقفٌ في عالَم مِن خارجِ هذه الأرض التُرابيّة. فهذه هي رسالةُ الفنِّ الكنسي، تذكِّرُنا بهويَّتِنا السَماويّة وبِالقَصدِ مِن خَلقِنا.

ينظرُ المسيح في هذه الفسيفساء، وفي هذا النوع مِن التّصوير، إلينا مباشرة. يُخاطبنا فيما نحن نقفُ أمامَه ننتظرُ رحمَته. أمّا والدةُ الإله والمَعمدانُ ينحنيانِ لهُ تَخشُّعًا وإجلالًا. فيشكِّلُ الثلاثةُ مثلثًا محورُه رأس الرّبّ. فهو الرأس في كل شيء، وهو المُخلّص والفادي.

وجه الرّبِّ ملتحي، ويشيرُ إلى هيئة القضاة وإلى مَن يَحكمُ بالحكمة وبالعدل. إنّه القاضي الدَيّان، وحُكمُه عادلٌ ومَنصور.

هذا تمامًا ما تنبّأ به زكريّا بقوله: "اِبْتَهِجِي جِدًّا يَا ابْنَةَ صِهْيَوْنَ، اهْتِفِي يَا بِنْتَ أُورُشَلِيمَ. هُوَذَا مَلِكُكِ يَأْتِي إِلَيْكِ. هُوَ عَادِلٌ وَمَنْصُورٌ وَدِيعٌ" (زكريا ٩:٩). هذا ما سنهتفُ به في أحد الشعانين.

الربُّ يبارِك، وحركةُ أصابعِ يدِه اليُمنى هي على شكلِ الحرف الأوّل والأخير IC XC مِن كلمَتَي "يسوع المسيح" في اللغة اليونانيّة

"IHCOYC XPICTOC". وهكذا يُبارِك الكاهنُ الشعب. فَهذِه الحركة تُشيرُ إلى أنَّ المَسيحَ هو المبارِك.

يرمز اللونُ الذهبيُّ في هذه الفسيفساء إلى طبيعة الرّبِّ الإلهيّة، واللونُ الأزرقُ إلى طبيعتِه البشريَّة كونه تَجَسّد.

إذا دخَلنا في عمقِ لاهوتِ هذه الفسيفساء نرتَعب، وفي الوقت نفسه نفرح!.

نرتعبُ بسبب عدمِ توبتنا، ونفرحُ بسببِ رحمةِ الرّبِّ في قَبولِ تَوبَتِنا. هو الذي افتدانا وخَلّصنا.

طروباريّة عيد ميلاد والدة الإله (٨ أيلول) تُخبرنا أنَّه منها قد أشرق شمسُ العدل المسيح إلهنا، وهو قد أبطل الموت ومنحنا حياةً أبديّة. أما في عيد القدّيس يوحنّا المَعمدان الجامِع (٧ ك٢) فنقرأ أنّه أبصرَ مَن هو استنارتُنا، أيّ الرّب، الذي يُنيرُ كلَّ انسانٍ آتيًا ليصطبغَ منه. وقد ارتجَفت يدُه عِندَ تعميدِه كونه الإلٰه، وابتهجَت نفسُه كَون المُعَمَّد هو المُنقِذ.

فأمامَ هذا المشهَدِ الإلٰهي، أيقونةِ الشفاعة، نقفُ تائبين، وطالبينَ مِن عمقِ النَفس: أيُّها الربُّ يسوعُ المسيح ارحَمنا وخَلّصنا.

إلى الربّ نَطلُب.

ملاحظة: مع الوقت ظهرت نماذج من هذا التّصوير كأيقونات بأحجام مختلفة فيها أشخاص آخرين مكان المعمدان، وحتى مكان والدة الإله.

[1]. Molanus, Iohannes. De Historia SS. Imaginum et Picturarum. Louvain: Typis Academicis, 1776. (Originally published in 1570.) Available online via the catalog of the New York Public Library.

[2]. نقيم تذكاره في ١١ آذار.