كلمةُ "الدينونة[1]" في الإِنجيلِ تَعني "الحُكْم".

إذا بَحَثنا عن معناها في اللُّغَةِ العَربيّةِ لَوجَدناها تَعني: "يَوْمُ الدِّينِ، يَوْمُ الحِسابِ". وإذا رَجِعنا إِلى الجَذر، إِن بِكَسرِ حَرفِ الدَّالّ "الدِّين" أيّ الدِيانَةِ وَالعِبادَة، أو بِفتَحِ الدَّالّ "الدَّين" أيّ القَرضِ ذو الأَجَل، أَو حِسابٍ يَجبُ تَسديدَه، لَوَجدنا أَنّ الكَلِمَتَين بِخِلافِ الفَتحِ أو الكَسِر، يَصبّانِ في المَعنى ذاتِه. فَالمخلوقُ سيُؤدّي حِسابًا أمامَ الخالِق.

هُنا يُطرَح سُؤالٌ مُهِمٌّ جِدًّا: "هل تأديةُ الحِسابِ للخالقِ يَعني أنّنا مَديونين له؟". قَد يُجيبُ أَحدُهُم إِنّ الإنسانَ مَديونٌ للهِ لأنّه أَعطاهُ الحياة. ولكن في الحَقيقةِ الموضوعُ أعمق مِن هذا بكثير.

فاللهُ وهبنا الحياةَ مَجانًا، وَلا يُريدُ مِنّا أيّ شَيءٍ بالمُقابِل إِلّا ما هو لصالِحنا وإفادتِنا وخلاصِنا حتّى نشارِكَه مجدَه. وقِمّةُ الصلاحِ القداسَة. هذا تمامًا ما يَعني أنّه خلقَنا عَلى صورتِه ومِثالِه. فنحنُ مَدعوونَ لتَحقيقِ هذا المِثال، أَيّ لِنَتَقَدَّس.

هذا الأمرُ لا يَتحقّقُ إِلّا مِن خِلال علاقتِنا مَع الآخر. لأَنَّهُ عَلى مَذبحِ الآخَرِ تنكَشِف نوايانا وخفايا قلبِنا. فإن كانت حَسنة تُقبل قرابينُنا، وإن كانت سيِّئة نجلبُ دينونَةً عَلى أنفسنا.

لا بُدَّ مِن التَذكيرِ دائمًا أنَّ كلّ حياتنا ثالوثيّة: "اللهُ والأخرُ وأنا". فإن أَحسَنّا للآخَرِ نُحقِّق مَشيئَة الله، ونكونُ في الصَّلاَح، والعَكس صحيح.

لقد دَخَلنا منذُ أسبوعَين فَترةَ التَهيئَة[2] لزمنِ التريودي[3]، وَغدًا "أحدُ الدَينونَة"، وَيُدعى أَيضًا "أحدُ مَرفَع ال اللَّحْمُ"، نتوقّفُ فيهِ عَن أكلِ اللَّحْمُ، عَلى الرَّجَاءُ أن نَتوقَّفَ عن أكلِ لحمِ بَعضِنا بَعضًا. وَالسبتُ قبلَ هذا الأحد، أيّ اليوم، هوَ سَبتُ الرَّاقدين، نُقيمُ فيهِ تَذكارَ جَميعِ الرَّاقدينَ عَلى رجاءِ القيامَة المَجيدَة. عِلمًا أنَّنا نَذكرهُم في كلّ قدّاس إِلهيّ.

قبلَ العودَةِ إلى أحدِ الدَينونة، لا بدَّ أن نَعي ما قالَه بولسُ الرسول: "«اسْتَيْقِظْ أَيُّهَا النَّائِمُ وَقُمْ مِنَ الأَمْوَاتِ فَيُضِيءَ لَكَ الْمَسِيحُ[4] ». ويُتابِعُ شارِحًا إِنَّ هَذا الاستيقاظ لا يتمُّ إلّا إذا سَلكنا كَحُكماء فَاهِمينَ مَا هِيَ مَشِيئَةُ الرَّبّ[5]، أيّ أَن نسلكَ كأولادٍ للنُّور، لا كُجهلاء وَأغبياء.

هذا كلُّه إذًا مُرتِبِطٌ بمسلكيّتِنا وإِرادَتِنا بِترَكِ أعمالِنا الرَّديئَة، وعَدمِ تَبريرِها بِعللِ الخَطايا. فَفي خِدمَةِ أحدِ الدينونةِ العظيمة نقرَأُ مَثلًا ما كتبَهُ قِدّيسُنا العَظيم ثيوذوروس الستوديتي[6] المُدافعُ عنِ الأَيقونات: "لنَسبِقَنَّ فننتحبُ، ولنُصالحِنَّ إِلَهَنا قبلَ الانقضاء، لأَنَّ الدينونةَ رهيبةٌ التي فيها سَنَقِفُ وأعناقَنا مَحنيّة".

بكلامٍ آخر وبسيط: لن نجدَ مَن يؤازِرنا إلّا تَوبتنا الصَّادقة إن قُمنا بها، أَي تَغييرِ مسلكنا، وإصلاحِ ما قد أفسَدنا. فنحن مُزمعون أن نقفَ أمامَ المِنبرِ الإلهيِّ حانيين أعناقنا، وستُكشَفُ أعمالُنا، لأنَّ الحُكمَ الإِلهيّ رَهيبٌ وعادل، ولا يَعرِفُ المُحاباة.

لهذا يَدعونا قدّيسُنا أن نَعيَ خطايانا دونَ تأخير، لأَنَّه لا أحد يَعرفُ متى تأتي ساعتُه. فمصالحةُ ربِّنا تتمُّ بمصالحةِ الآخَرِ بحسبِ مشيئَةِ رَبّنا الحَقَّة، وليسَ بِحسبِ مَشيئتِنا المَليئةِ بالأهواءِ المريضَة.

مِن هنا كانَ اختيارُ آبائِنا القِدّيسين إنجيلَ هذا الأحد[7] الذي يبدأُ هَكذا: "وَمَتَى جَاءَ ابْنُ الإِنْسَانِ فِي مَجْدِهِ وَجَمِيعُ الْمَلاَئِكَةِ الْقِدِّيسِينَ مَعَهُ، فَحِينَئِذٍ يَجْلِسُ عَلَى كُرْسِيِّ مَجْدِهِ".

نعم، سيُعلِنُ الرّبُّ حُكمَه علينا بحسبِ أفعالِنا مع الآخرين، مُعلِنًا ذلكَ بقولِه إِنَّ كلَّ ما نفعلُه مِن خيرٍ أو شَرٍّ تجاههم، فَبِهِ قَد فَعلناه، مُسَمِيًّا المحتاجين إخوتَه.

وما ذكرَه الرّبُّ في كلامهِ عن المساعدَة في القوت، والإيواء، واللباس، والافتقاد، عنوانه "المحبّة" التي نحنُ سَنُسألُ عنها.

جلوسُ الرّبِّ على كُرْسِيِّ مَجْدِهِ صوّرَته الكنيسةُ في فَنِّها الكنسيّ بأبهى جَمالِه. فَقَد ظهرَ في الفنِّ الإيقونغرافيّ ضِمنَ النَّماذِج الإيقونغرافيّة الثَّلاثةِ الأساسيَّةِ للرّبِّ يسوعَ وهِي:

١-النَّمُوذَجُ الأوَّل، وَجهُ الرّبِّ غير المرسومِ بِيَد: يَذكرُ التَّسليمُ الكنسيّ أنَّ صورةَ الرّبِّ طُبعَت على مَنديلٍ كانَ قد مُسِحَ على وجهِ الرّبّ، وأُرسلَ إلى المَلكِ "الأَبجَر" Abgar ملك Édesse، الرها (تركيا حاليًّا).

يُظهِر هذا النَّمُوذَجُ فقط وجهَ الرّبِّ بملامح تجمعُ بينَ الجديَّة الصَّارمَة التي لا تعرفُ إلّا الحُكمَ العادِل، والرَّحمَةَ اللامتناهيَةَ للبَشِر، والتي تَقبَل بِكلِّ شَوقٍ تَوبَتنا الصَّادِقَة. كيفَ لا، وهوَ الذي افتدانا بدَمِهِ الكريم.

٢-النَّمُوذَجُ الثَّاني، الضابِطُ الكلّ، Pantocrator: وهو الأكثرُ شُيوعًا، نرى فيه الرّبَّ الإلهَ معطي الحياة، الصائرَ إنسانًا لخلاصِنا، بشكلٍ نصفيٍّ فَقط En buste. يبارِكُ بيدِه اليُمنى، ويحملُ بيدِهِ اليُسرى الإنجيلَ المُقدَّس (مُغلقًا أو مَفتوحًا)، الذي هوَ كلمةُ الحياةِ والفَصل.

لَيس لنا نحنُ المسيحيينَ أيّ دُستورٍ آخرَ سوى الإنجيل. فَهو رايتُنا، ومَنهج حياتِنا، وعلى أساسِه يَصدرُ قَضاءُ إِلهِنا. ولا حُجَّةٌ لنا بتجاهُلِه، أو حتّى استصعابِه، إذ إنَّ قوافِلًا مِن القِدّيسينَ عاشوه وتقدّسوا به.

٣-النَّمُوذَجُ الثَّالث، الرّبُّ جالسٌ على كرسيِّه في المجدِ مُحاطًا بالمَلائِكَة: هذا التَّصويرُ يَنقُلُنا مباشَرَةً إلى رؤيةِ إشعياء النَّبيّ في إصحاحِهِ السَّادِس، الذي لا نَكتفي بقراءتِه فَقط، بل نضعهُ نُصبَ أعينِنا في كلّ لحظَة، إذ يجعُلنا نتأَمَّلُ تِلكَ اللَّحظَة الرَّهيبة عِند المثولِ أمامَ الديَّانِ في الدَينونَة. يقول إشعياءُ إنَّهُ رأى السَّيِّدَ جَالِسًا عَلى كُرْسِيٍّ عالٍ وَمُرْتَفِع، والسيرافيمُ واقِفونَ حَولَهُ.

وَعندَما لُفِظَتِ المُناداةُ الإِلهيَّة: «قُدُّوسٌ، قُدُّوسٌ، قُدُّوسٌ رَبُّ الْجُنُودِ. مَجْدُهُ مِلْءُ كُلِّ الأَرْضِ»، اهتزَّت أساساتُ الْعَتَب. وَيُتابِعُ إِشِعياءُ بأنَّهُ ارتَعَبَ، وقال: "وَيْلٌ لِي! إِنِّي هَلَكْتُ"، مُعتَبِرًا نفسَه إِنسانًا خاطِئًا.

وهُنا جَوهَر الكَلام، فَقد طارَ واحِدٌ مِن السِّيرافيم، وَبِيَدِهِ جَمرة، أخذَها بِمِلقَطٍ عَنِ المذبَح، وَمَسَّ بِها فَمه، وقال لإِشعياء إِنَّ إثمَهُ قَد انتُزِعَ، وَكُفِّرَ عَنْ خَطِيَّتِه.

ما هي هذهِ الجَمْرَةُ إلّا القُدُسات، جَسَد الرّبِّ ودَمه الكَريمَين.

ولكن هُنا يَجبُ الانتباه جَيِّدًا إلى أمرَين:

الأوَّل: كان إشعياءُ صادِقًا قَولًا وفِعلًا.

الثَّاني: قد قالَ بولسُ الرَّسول: "لِيَمْتَحِنِ الإِنْسَانُ نَفْسَهُ"، "لأَنَّ الَّذِي يَأْكُلُ وَيَشْرَبُ بِدُونِ اسْتِحْقَاق يَأْكُلُ وَيَشْرَبُ دَيْنُونَةً لِنَفْسِه[8]".

إذًا، لِيَمْتَحِنِ الإِنْسَانُ نَفْسَهُ قبلَ الدَينونَةِ على ضَوءِ الإنجيل. هَذا هُو كلُّ اللاَّهوتِ ومَقصَدِه.

الإنجيلُ أمامَنا، فَإمّا أن تُحرِقَ الجَمرةُ الإِلهيّةُ آثامَنا، أَو أَن نَحتَرِقَ نحنُ في خَطايانا.

إِلى الرّبِّ نَطلُب.

[1]. في اللغةِ اليونانيَّة هيَ الحُكمُ - رومِيَة ٨:١ - katakrima

[2]. تضم فترة التهيئة أربعة أحاد: الفرّيسيّ والعشّار، الابن الشاطر، الدينونة، الغفران.

[3]. يقسم زمن التريودي إلى ثلاثة أقسام: التهيئة، الصوم الأربعيني، الأسبوع العظيم.

[4]. أفسس ١٤:٥

[5]. أفسس ١٥:٥-١٧

[6]. ٧٥٩-٨٢٦م – نقيم تذكاره في ١١ تشرين الثاني.

[7]. متى ٣١:٢٥-٤٦

[8]. ١ كورنثوس ٢٧:١١-٢٨.