أحدُ الغفران هُوَ الأحَد الرابِع والأَخير مِن فترة التَهيئة لزمنِ التريودي.

هو يُدعى "أحدُ الغُفران"، لأنّه في مساءِ هذا الأحد يَستغفرُ المؤمنون بعضُهم مِن بعضٍ بعدَ صلاةِ الغروبِ مباشَرةً، على رجاءِ أن يبدأوا صَومَهم بقلبٍ نَقيّ. كذلك هو أحد مرفع الجُبن.

صحيحٌ أنَّه يُسدِلُ السِّتارَ على فترةِ التريودي الأولى، إلّا أنّه يفتحُ أمامَنا مسيرةَ حياةِ الإنسانيَّة جَمعاء منذُ سقوطِ الجَدَّينِ الأَوَّلَين، آدمَ وحوّاء، إذ هو ذكرى طَردِهما مِن الفردَوس.

قد يَعتبرُ البعضُ أنَّ قِصّةَ آدمَ وحوّاءَ أسطوريَّة، وخاليةٌ مِن أيِّ مغزًى أو تعليم. ولكن الأمرَ مختلفٌ تمامًا، إذ إنِّها تَحمِلُ في طيَّاتها تعليمًا رائعًا.

لقد خلقَ الرَّبُّ الإنسانَ على صورتِهِ ومثالِهِ، أيّ حُرًّا، وأعطاهُ كلَّ المُقوِّماتِ ليتقدّس إذا شاء. ووضعَ الإنسانَ الأوّلَ آدمَ، في جنّةِ عَدَن. وأوصاهُ ألّا يأكلَ مِن شَجَرَةِ مَعْرِفَةِ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ، محذِّرًا إيّاه: "لأَنَّكَ يَوْمَ تَأْكُلُ مِنْهَا مَوْتًا تَمُوتُ"(تكوين ١٧:٢).

ثمَّ خلقَ اللهُ حوّاءَ مِن ضُلعِ آدمَ لتكونَ مُعينًا وَنَظيرًا له(تكوين ١٨:٢).

قبلَ أن خَلقَ اللهُ الإنسانَ، خلقَ كلَّ شيءٍ حَسنًا مِن حوله، وأعطاهُ سُلطَةً على كلِّ المخلوقاتِ الأخرى بما فيها الطبيعة. هَذهِ هيَ سُلطَةُ المحبَّةِ والبنيان، وليس التسلُّط والهَدم.

هناكَ شيءٌ مُلفِتٌ في عمليَّةِ الخَلقِ هَذه. كان يوجَد أيضًا في وَسَطِ الجَنَّة "شجرةُ الحياة"، وكان مسموحٌ لآدمَ أن يأكلَ مِنها.

لنَطرحْ هُنا سُؤالَين مُهمَّين جِدًّا:

١-ما الذي يَقصدُ بِهِ الكِتابُ المقدّس بـ "شَجرةِ الحَياة"، وَ "شجرةِ مَعرفةِ الخَير والشّر"؟

٢-لماذا يَموتُ آدمُ وحوّاءُ إذا أَكَلا مِن "شَجَرَةِ مَعْرِفَةِ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ"؟

لنبدَأ بالسُّؤالِ الأوّل.

يقولُ سِفرُ الأمثال: "طوبى للإنسانِ الذي يجدُ الحكمةَ، فهِيَ شَجَرَةُ حَيَاةٍ لِمُمْسِكِيهَا، وَالْمُتَمَسِّكُ بِهَا مَغْبُوطٌ، والرَّبُّ بِالْحِكْمَةِ أَسَّسَ الأَرْضَ. أَثْبَتَ السَّمَاوَاتِ بِالْفَهْمِ[1]". وأيضًا، "ثَمَرُ الصِّدِّيقِ شَجَرَةُ حَيَاة[2]".

المقصودُ هنا طبعًا الحِكمَة الإلهيّة. فهيَ نورٌ ومَعرفَة، وَعكسُها ظُلمةٌ وَغَباء.

يصفُ الرَّبُ دائمًا البُعدَ عن حكمتِهِ بِالغَباء[3]. كَذلكَ فَعلَ بولس، مع أهل غلاطية، مثلًا عندما ابتعدوا عن معرفةِ الرَّبِّ يسوع وتركوا عمل الروح القدس[4].

يَتجلّى معنى "شجرة الحياة" في سِفرِ الرؤيا، إذ يقولُ الرَّبِّ: "مَنْ يَغْلِبُ فَسَأُعْطِيهِ أَنْ يَأْكُلَ مِنْ شَجَرَةِ الْحَيَاةِ الَّتِي فِي وَسَطِ فِرْدَوْسِ اللهِ[5]".

ويأخذ المعنى مَداهُ في الإصحاحِ الأخيرِ مِن السِّفرِ الأخيرِ للكتاب، حيثُ يقولُ القدّيس يوحَنّا الإنجيليّ اللاهوتيّ إنَّ الرَّبَّ أراهُ "نَهْرًا صَافِيًا مِنْ مَاءِ حَيَاةٍ لاَمِعًا كَبَلُّورٍ، خَارِجًا مِنْ عَرْشِ اللهِ وَالْخَرُوفِ[6]"، وَيُتابعُ بِأنَّ في وسطها شجرةَ حياةٍ تصنعُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ ثَمَرَةً، وَتُعْطِي كُلَّ شَهْرٍ ثَمَرَهَا، وَوَرَقُ الشَّجَرَةِ لِشِفَاءِ الأُمَمِ[7].

الخروفُ هو "الحملُ الذبيحُ" الرّبُّ يسوعُ المسيح، والشِفاء لمن يقتبله بِصدق.

إذًا "شَجَرةُ الحياة"، كما يشرحُ القدّيسُ غريغوريوس النيصصي، هي المسيحُ نفسُه. هي جسدُه ودمُه الكريمَين، وهوَ مَن يعطي الحياةَ الأبديّةَ للإنسان، فقد قالَ لنا الرَّبُّ: "أَنَا هُوَ خُبْزُ الْحَيَاة[8]"، ومَن يأكلُهُ له الحياةُ الأبديّة، ولا يموت.

أمّا ثِمارُ "شَجَرَةِ الحياة"، فَهي القِدرةُ على التميّيزِ بينَ الخَير والشَر. وهَذا يَتَطلَّبُ الأكلَ مِن "شَجَرةِ الحياة" أوّلًا، وامتلاكَ الحِكمةِ الإلهيّةِ مِن أجلِ نُمُوٍّ صالحٍ في الفضائل والنِعَم الإلهيّة. دونَ هذه الحِكمة، ظلمَةٌ وضَياع، سقوطٌ ومَوت، فيتوغّل الشَرُّ فينا وَيتكاثَر.

أمّا جوابُ السُّؤالِ الثَّاني فَهُو: وَقَعَت حَوّاءُ في فَخِّ الشَيطان وَأَوقَعتْ آدمَ مَعها بَعدَ أن أكلَ مِن الشَّجرة. واعتَبَرا أنَّ الخطيئةَ شهيّةٌ للنظَر، وأغفلا عن أنَّ طعمَها شديدُ المرارَةِ في جَوفِهما، فكانَ سقوطُهما عَظيمًا.

ولأَنَّ لا شِركَةَ بينَ النُّورِ والظُلمة، وحتّى لا تُخَلَّد[9] الخطيئةُ في الإنسان، كانَ لا بُدَّ من إخراج آدمَ وحوّاءَ مِن الفردوس بتدبيرٍ مِنَ الله، قبلَ أن يأكُلا مِن "شَجَرةِ الحَياةِ" وهما غيرُ تائبَين.

ولكنَّ الله لم يَتَخَلَّ عَن الإنسان، بل وَعدَنا أنَّ مِن نسلِ[10] حَوّاءَ سيأتي مُخلّصُنا. وهكذا كان.

فكما كانَت مخالَفَةُ آدمَ وحوّاءَ لإرادَةِ الرَّبِّ بِملءِ إرادتِهما، كذلك فالعودة إليه تكونُ بِملْءِ حرّيَّتِنا. وما علينا إلّا أن نُجاهدَ بِصِدقٍ لنكتسبَ الحِكمةَ الإلهيّة، ولا نُطيعُ الغِشَّ الشيطانيّ، كما تقول إِحدى صلواتِ هذا الأحد: "وَيلي يا نفسي الشقيّة كيف ما عرفتِ الغِشّ. كيفَ لم تشعري بالضلالَة، بل أُظِلمَ عقلُك!".

هنا بالتحديد يقولُ القدّيس باسيليوسُ الكبير: "إنَّ استنارةَ الذِّهنِ هيَ مُحارَبَةُ الأهواءِ الرديئة". والعائِقُ الأوّلُ في جِهادِنا هو عَدَمُ التَخلّي عَن كبريائِنا وأنانيّتنا.

وهُنا يأتي معنى الموتِ في الإيمانِ المَسيحيّ. فَالموتُ الحَقيقيُّ هو لِمَن يَقبَعُ في قَبرِ خطاياه، والقيامَةُ هي التَّوْبَة، والإمساكُ بيد السيِّد القائم دائمًا، والذي أقامنا معه.

فَآدمُ وحوّاءُ الّلذانِ نَراهُما مطرودانِ مِن الفردوس، نَرى الرَّبُّ يسوع يُنهضهما مِن القَبرِ في أيقونَةِ نزولِ الرَّبِّ إلى الجَحيم. لأنَّ طردَهُما كان في الواقِع طَرْدًا للخطيئةِ التي فيهما، وَليسَ لإنسانيّتِهما. فالرَّبُّ تَجَسَّدَ لنكونَ في شِركَةٍ معهُ لأَنَّنا أبناءَه، وهذهِ الشِركَة تَتَحقَّقُ إِن قَبلناها مُجاهِدينَ مِن أجلها.

هذه هي المحبَّةُ الإلهيّةُ للبشر، التي تُعطي المعنى الحقيقيّ لحياتِنا، لأنّها الأَسْمى، ولأَنَّها تجعلُنا أقوياءَ في شِركَةِ المَحبَّة مع الله والآخرين، وكلِّ ما يُحيطُ بنا. والمعرفَةُ الحقيقيَّةُ هي أن نَعرفَ إِلهنا مِن خِلالِ تفعيلِ الروحِ القُدسِ الذي فينا.

إنَّ زَمَنَ التريوديّ ما هوَ إِلّا مَسيرَةُ عَودَتِنا إِلى الشَرِكَة مَع فادينا، إِن تَواضَعنا. وَهِيَ عَودَةٌ إِلى الحياةِ مِن خلالِ تناولِ ثِمارِ "شَجَرَةِ الحَياة"، التي تَجعَلُنا لا نَحيا فَحَسْب، بَل نُضْحي حَياةً للآخرين. وَعَكسُ كلِّ ذَلكَ مَوتٌ.

إِلى الرَّبِّ نَطلُب.

[1]. أمثال ١٨:٣-١٩

[2]. أمثال٣٠:١١

[3]. لوقا ٤٠:١١ - ٢٥:٢٤

[4]. غلاطية ١:٣

[5]. رؤيا ٧:٣

[6]. رؤيا ١:٢٢

[7]. رؤيا ٢٢:٢

[8]. يوحنا ٤٨:٦

[9]. وَقَالَ الرَّبُّ الإِلهُ: «هُوَذَا الإِنْسَانُ قَدْ صَارَ كَوَاحِدٍ مِنَّا عَارِفًا الْخَيْرَ وَالشَّرَّ. وَالآنَ لَعَلَّهُ يَمُدُّ يَدَهُ وَيَأْخُذُ مِنْ شَجَرَةِ الْحَيَاةِ أَيْضًا وَيَأْكُلُ وَيَحْيَا إِلَى الأَبَدِ». (تكوين ٢٢:٣).

[10]. "وَأَضَعُ عَدَاوَةً بَيْنَكِ وَبَيْنَ الْمَرْأَةِ، وَبَيْنَ نَسْلِكِ وَنَسْلِهَا. هُوَ يَسْحَقُ رَأْسَكِ، وَأَنْتِ تَسْحَقِينَ عَقِبَه." (تكوين ١٥:٣).