عندما نكتب عبارة "المهن اليدوية" بشكل عام على "غوغل" تظهر أمامنا عشرات المقالات التي تتحدث عن "اندثار" هذه المهن بعد ازدهارها في الماضي، وذلك لأسباب متعددة أبرزها تغيّر طبيعة المهن المطلوبة مع التقدم التكنولوجي. في لبنان لم يختلف الحال عن غالبية دول العالم، حيث ارتفع عدد "حملة الدكتوراه"، وانخفض عدد أصحاب المهن الذي يعملون بأيديهم، لكن ما قبل العام 2019 يختلف عمّا بعده.

في العام 2019 بدأ الإنهيار الإقتصادي في لبنان، وتبدّلت الأحوال، بحيث أصبحت رواتب الموظفين تتقلّص شيئاً فشيئاً مع انهيار الليرة مقابل سعر صرف الدولار، في بلد مدولر، في القطاع العام، كما في القطاع الخاص، حتى أساتذة الجامعات "ماتت" قيمة رواتبهم.

توسعت نسب البطالة داخل المجتمع اللبناني، وكبر الفارق في سوق العمل بين النساء والرجال (2)، وزاد التضخم الى مستويات جنونية، لذلك كان لا بد من التفكير في كيفية تأمين المداخيل للعائلات، فاتّجهت العين على أصحاب المهن والمصالح، الذين رفعوا قيمة ما يتقاضوه مقابل أعمالهم شيئاً فشيئاً، لتتناسب مع وضع الليرة، فكانت أغلب تسعيراتهم بالدولار، وهو ما شجع الشباب والشابات على تعلم هذه المصالح من جديد، إما بهدف العمل بها، وإما بهدف تحقيق الإكتفاء الذاتي للعائلات بسببها، بظل وجود مبادرات في هذا السياق منها المبادرة التي تقودها مؤسسة مخزومي في بيروت، لتعلم العديد من الحرف اليدوية، ومنها الخياطة التي استرجعت بريقها خلال الأزمة.

زمن "المصالح" يعود!

عام 2010 ترك أبو حسن الذي يبلغ من العمر 50 عاماً مهنة "الكهرباء" وعمل موظفاً لدى شركة تعمل في مجال الشبكات الإلكترونية، لأن راتب الوظيفة أفضل من مردود مصلحته. في العام 2020 ترك الوظيفة الذي بات راتبها لا يساوي 200 دولار أميركي رغم الزيادات، وعاد الى حضن "مصلحته القديمة". يقول أبو حسن أن "مهنة الكهرباء كغيرها من المهن التي تعتمد على العمل اليدوي عادت لتكون مصدر رزقي، فتأقلم المردود مع الإنهيار، واليوم لا يقل بدل أي تصليحة في أي منزل عن 10 او 15 دولاراً، وبالتالي المردود الشهري يساوي أضعاف ما كانت تقدمه الوظيفة خلال الأزمة، لذلك أشكر الله أنني "صاحب مصلحة".

كذلك، كاد "عماد" وهو خياط في بيروت، ان يُقفل محله عام 2018 بسبب ضيق الحال، فشراء الثياب الجاهزة يكاد يكون أقل ثمناً من تصليحها، لكن ما حصل بعد الأزمة أعاد الأمل لعماد بمهنته، إذ يقول: "انتعشت الخياطة بعد الأزمة، فازداد العمل، كما ازدادت قيمة ما نتقاضاه، واليوم هناك كثيرون يقصدونني لأجل تعلم المهنة، مشيراً إلى أن كلفة التقصير اليوم تبلغ حوالي 3 دولارات، بينما التصليح حسب حجم المشكلة يتراوح بين 5 و10 دولارات".

المهن اليدوية لتمكين المرأة ودعم الرجل

​​​​​​​مهنة الخياطة هي من المهن التي كادت تندثر بسبب المصانع، ورخص البضائع في لبنان، عندما كان الدولار يساوي 1500 ليرة لبنانية، لكنها اليوم أصبحت مطلوبة بكثرة، تقول آرليت سعادة، المسؤولة في مؤسسة مخزومي التي تقدّم دورات تدريبية للراغبين بتعلم الحرف اليدوية ومنها الخياطة، الى جانب مهن يدوية أخرى، تستهدف النساء بشكل أساسي لتمكين المرأة ومساعدتها لدعم العائلات.

تقول آرليت: "منذ تأسيس مؤسسة مخزومي، كانت الرسالة الأولى تمكين المرأة بشكل خاص إلى جانب باقي أفراد المجتمع لمساعدتهم على النهوض والعمل، عبر برامج تنموية وبيئية أيضاً، ومن هنا انطلقنا عام 1998 بفكرة الدورات لتمكين أفراد المجتمع من أجل تشجعيهم على العمل من المنزل نظراً لغياب القدرة المادية للخروج إلى ميادين العمل.

وتضيف: "إيمانا بالتراث وأهميته، تم العمل على المهن والحرف المهددة بالزوال، والانطلاقة كانت عبر التركيز على مجموعة أفكار كصنع الشوكولا وغيرها من الحرف، واليوم تم تفعيل العمل بعد بدء الأزمة الإقتصادية عام 2019 ووصلنا إلى ما يقرب الـ 40 حرفة، منها الخياطة التي زاد الطلب عليها كثيراً مؤخراً بسبب زيادة القدرة التنافسية للمنتوجات المستوردة، إلى جانب انخفاض القدرة الشرائية للمواطن في ظل التقلبات الحاصلة في سعر صرف الدولار.

حوالي 100 متدرب ومتدربة على الخياطة استفادوا من هذه المبادرة في السنوات الثلاث الماضية 2019 - 2022، فبعد ازمة الكورونا رغبت زينة الزين، وهي امراة أربعينية تُقيم في بيروت، أن تتعلم الخياطة، والسبب كان مزدوجاً، فهي إلى جانب حبها للخياطة تعمل في مدرسة تهتم بذوي الإحتياجات الخاصة، وأرادت تعلّم مهنة تستطيع نقلها الى طلابها، بالإضافة الى تحقيق اكتفائها الذاتي بهذا المجال داخل منزلها. تقول الزين: "علمت بدورات التدريب فتسجلت فيها، واليوم أستطيع فعل كل الأمور الأساسية بالخياطة داخل منزلي، كما عكست ذلك على طلابي وأنا فخورة بما أقوم به داخل المنزل وخارجه".

تقدّم المبادرة دورات تدريبية في الخياطة لعدة مستويات، فهناك من يُريد تعلّم أسس المهنة، وهناك من يسعى لاكتسابها كمهنة قائمة بحد ذاتها، ولا تعتمد المبادرة على تقديم التدريبات في بيروت فقط، بل أكثر من منطقة لبنانية كعرمون وصيدا وطرابلس وزحلة، كذلك تقوم المؤسسة بمساعدة المتدربين على تسويق أعمالهم من خلال صفحات السوشيل ميديا الخاصة بالبرنامج، وتنظيم المعارض.

تملك منى عليوان محلاً لبيع الثياب في بيروت، لكن العمل اختلف بعد بدء الإنهيار الإقتصادي، الأمر الذي دفعها للبحث عن وسيلة تحسن بها مدخولها الشهري، فكانت "الخياطة" كونها تتعلق بعملها الأساسي. تقول منى: "تسجلت في الدورة التعليمية وأنهيت التدريب فأصبحت أعتمد على نفسي بتصليح الملابس، سواء بالمنزل، أو بالمحل حيث ساهمت الخياطة في تحسين ظروف العمل ولو بنسبة بسيطة".

غياب المواكبة الرسمية .. وضعف التوجيه

أضاءت الأزمة الإقتصادية على واقع المهن اليدوية، أو "المصالح: التي أصبحت مصدر رزق لكثيرين بعد أن كادت تندثر، ولعل هذه المبادرة شكّلت باب أمل جديد لفئة من اللبنانيين، لكنها تبقى قاصرة لوحدها على إعادة إحياء مهن عديدة باتت حاجة اليوم في سوق العمل اللبناني، بسبب غياب الاهتمام الرسمي والخاص من قبل المعاهد والمهنيات، إذ لا يوجد مناهج متطورة في التعليم المهني، كما لا يوجد برامج مخصصة لتوجيه الطلاب نحو هذا النوع من التعليم، لذلك تبقى مبادرات القطاع الخاص، على أهميتها غير قادرة على تلبية الطلب المتزايد على تعلم هذه المهن، كما تسويقها.

وفي هذا السياق يقول محمد مبارك، وهو أستاذ في التعليم المهني، أن هذا النوع من التعليم كان قبل 10 سنوات غير قادر على جذب الطلاب الذين كانوا يظنون أن التعليم المهني للفاشلين، بسبب غياب أي نوع من أنواع التوجيه في المدارس، أما اليوم ورغم أن الحال اختلف بعض الشيء، إنما جاءت الازمة الإقتصادية التي ترافقت مع أزمة الكورونا، لتعرض القطاع لضربات موجعة، هرّبت الطلاب والأساتذة معاً.

رغم ذلك، ليست مشكلة التعليم المهني محصورة بالأزمة الإقتصادية، بل أساسها التوجيه المهني، يقول مبارك، مشيراً الى أن هذا التوجيه لا يرتبط بطرف فقط، بل هو مسؤولية متكاملة بين الاهل، المدارس، والمعاهد، وهو ما يجب تفعيله من خلال إيجاد الخطط المناسبة للتواصل مع الطلاب، وجذبهم باتجاه المهن والمصالح اليدوية الضرورية والتي يحتاج اليها سوق العمل، بالإضافة إلى تحسين المناهج عبر إدخال "المصالح" إليها.

*تم إنجاز هذا العمل بالتعاون بين الكاتب، ومؤسسة مهارات ودوتشيه فيله، في إطار التدريب على الصحافة البناءة.