توبوا يا أيّها الرُّعَاةُ والقادة!

توبوا وعُودوا عن غِيِّكم وضَلالكم!

توبوا وقد تَغاوَوتُم على الضعيف فأردَيتمُوه!

توبوا، فالأرض تَئِنُّ وتَتزلزَلُ لكثرة تعدّياتكم عليها !

توبوا، فيومُ الحِساب قريب!

واحسْرَتاه! كنّا على موعِدٍ والتاريخ المـُشرقِ الفضيل، حتى ابتُلينا بمن رَدّ عقاربَ الساعة إلى الوراء! أنتم، نعَم أنتم يا من ترَبّعتُم على العروش وأقفلتم الأبوابَ والنوافذ، غير آبهين بشعبِكم يلمُّ الفُتات، ويَتلَوّى حسرةً وندامةً على ساعةِ تخلٍّ أسقطَ فيها اسمَكم المشؤوم في صندوق الاقتراع. ومع ذلك، أصرّيتم على التمايز عن الرعيّة، وآثرتُمُ التماهي وربوات الآخرين. أرَدتُم أن تكونوا رعاةً موسومين موشّحين مُزَركَشين. خالَفتمُ الكلمة وبالغتم في تأويلها وتَسَمّيتُم زُعماءَ، آباءً كبارًا ومدبّرين. وبدلَ الحفاظ على القطيع والعناية به، تَركتمُوه لقمةً سائغةً بين أنياب الضواري والذئاب المتعطّشة لدم الأبرياء، لأنين المرضى المُدنِفين، لدموع الأرامل الثكالى، لصراخ اليتامى المذعورين. تَنَكّرتم لولائكم الأوّل والأصيل وتِهْتُم في حصيلة تَبَاعِيّتكم لمحافل الجور، لاقترانكم بسواد هياكل الجوع النّهم، عِوَضًا عن الرّكون إلى سَكينة المعابد والاصغاء لصوتِ من قال "كُنْ" وأشرَق نور. ضَللتم وارتمَيتم في أحضان الكراسي الزهريّة والمراكز الأرجوانيّة. طلبتم الخدمَة، ونسيتم أنّكم خدّامُ من قال "أنا الكرمةُ وأبي الكرّام..." (يو 15: 1). تكالبتم على الدين والدنيا وغابَ عن بصيرتكم حسُّ التمييز، فجمعتُم ما لقيصر وفرّطتم في ما هو لله (مر 12: 17). كدّستم وبذّرتم، ويا ليتكم انتفعتم! أهْمَلتُم صروحَكم التربويّة، تاجَرتُم بأسمى الرسالاتِ الإنسانيّة، غمّضتُمُ العينَ عن سنديانة الدير وظلالها الروحيّة، وتناسَيتم الأقبيَةَ في قزحيّا والخنشارة واشراقاتِها المعرفيّة، هَيَجانَ حِبرها الذي غذّى النهضةَ العربيّة. ما عرفتم قريبًا ولا بعيدًا، ازْوَرّيتُم عن المحتاج، رَهَنتم أسِرّةَ المرضى لمن يدفعُ أكثر ويزيد، بعدما تفانى المؤسّسون السامريّون الصالحون (لو10: 30 – 37) في الاعتناءِ بكلّ مريض وجريح وسقيم. توبوا، فقد لا تجدون خرنوبًا على "سعر الصيرفة"، بينما رحمةُ الله الآب ثابتةٌ ومَضْمُونة، تنتظرُ أمامَ الباب (لو 15: 20).

وألف نعم! تمسّكتم بالقيادة، احتكرتموها، عدتم بالمدينة إلى ماقبل الحرف والشرائع، إلى غابٍ تتنافسون فيها على فريسة مُضَمّخة بدمائها، بوجَعها وبآهاتها. احتَسبتم ذواتِكم آلهةً لا تموت، لا تكترثُ لمواطنة، لعدالة، لمساواة، لا تعرفُ حُقوقًا ولا تَقرُّ بواجبات. أكلتم رغيفَ الفقراء، وصادَرتم مُلكيّةَ المنكوبين الضعفاء، تاجَرتُم بشَرَف الضحايا الأبرياء، وأنتم تخافون السيرَ في واضحة النهار (هَربًا من قنديل ذيوغينيس)، تتسامرونَ ليلًا على حكاياتِ الموجوعين المقهورين المحرومين.

تلك الإدارتُ العامّة، الوزارات والدوائر الرسميّة، أفرغتموها، دنّستموها وحوّلتمُوها بؤرًا للفساد، كهوفًا للصوص، كرومًا على درب.

"تلك المنازل!" التي باتت فارغةً من أهلها ويَرثيها شَبابُها، المهاجرُ قَسرًا، بصوت إيليّا أبو ماضي:

لولا الخيالُ يُعينُ أنفسَنا لمّا

سَكَنَت، و لم يَهدأ صُراخُ كلومها"!

وعن الثعابين التي في أرضها،

وعن الذئابِ العُصْل خلفَ تُخومها

ألجاهليّةُ، آه من أصنامِها

بُورِكتَ، يا من جَدَّ في تحطيمها

والطائفيّةُ أنت أوّلُ مِعْوَلٍ

في سُورها، ثابر على تهديمها

حتّى تعودَ وواحدٌ أقنومها

ويحلّ روحُ الله في أقنومها...!

"تلك المنازل!" أينما كانت، وكيفما كانت، حرِّروها من لعنَتِكم، ومن سَطوتكِم وجَشعِكم.

توبوا! واتركوا لنا الخيالَ يبكيها، يُرمّم جُدرانَها وشُرُفاتِها، يزّينُ نوافذَها وسطوحَها، فتعودَ الكرمةُ تورفُ الظلالَ وتُدلّي عناقيدَها الياقوتَ والعسل. توبوا! لتعودَ الضحكاتُ تُدفئ لياليَنا الباردة بدَلَ المازوت المغشوش الضائع والتيّار المنقطع والمسلوب...

توبوا ورُدّوا لنا رواياتِ جديّ الصادقة، ترسمُ لنا مستقبلًا زاهرًا عامرًا، أمينًا لقُدسِيّة الأرض ورَمزيّة العاداتِ والتقاليد، بعدما لوّثتُم ماضينا بحاضِركم المَشوب بكلّ عيبٍ ورذيلة. توبوا! لا طائفة تُعين ولا دين يحمي من لا ضمير له، من لا قلب له، من لا حياء له!.

توبوا! "فَمَن تَابَ مِن بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّـهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّـهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ" (المائدة، 39).

توبوا! وصوّبوا مسالكَكم وعودوا إلى الرّب يعودُ خيرُكم ويزيد.

وإنْ فَعَلتُم، فلا تُرَدِّدوا المزمورَ الواحد والخمسين شارحينَ ومفسّرين، بل صَلّوهُ راكعينَ تائبينَ صادقين. فقد لا تَنفَعُ الزُّوفى إنْ لم أغسِلْ بها جسدي وقلبي وفكري، وأرشّ الرمادَ على رأسي، وأصرخْ: "ارحمني يا ألله"!.