مثل طابعٍ فقد أرزته الخضراء تُتاجرون بها في الساحات والعدليات، أسلخ من إسمي وشهرتي ووجهي وحبري وعقلي وذهني أكوام الفخامات والرؤوساء والسيادات والمعالي والمدراء والأحزاب والفرق والأسماء والألقاب والمواقع والكتابات وصور الجدران المهجورة في القصور والثروات والمقتنيات الثمينة،

ويركع حبري أمام هذا اللبنان الهزيل الحقير الفقير لأرسمه سماءً وشمساً وأرضاً ووطناً جديداً وقبلةً ربيعٍ في عيون الأمّهات اللبنانيات... كلّ الأمّهات، لا فرق بين رحمٍ وآخر وصدر وآخر ووجه وآخر سوى المحبة والحنان والعطاء ورجاء الخلاص...

الأمهات اللبنانيات أصابع مترهّلة تحمل الدنيا وقد هرمت وطُويت وتُقيم في آلام المخاض والتربية والجوع والسترة وخفّة الأبناء والأزواج والرجال الذكور حتّى الإهتراء العام.

دهور من رحيق الرضاعة والكلل والسهر والخصام والتصالح والفقر والضحك والقهر شلّت أجسادهن والعقول بارت وينهمر كلّ هذا القيح الوطني فوق رؤوسنا في عيد الأمهات.

وكان إذ يلمع سنّ صغير في بسمة رضيعةٍ أو رضيعٍ أو وطنٍ ، نرى الكون يتهادى مبشّراً محاولاً الصراخ بولادة الفرح في الدنيا، وتروح الأمهات بقيادة العائلات في الأرض ببسمتها تتحلّق وتصفّق وترقص لتلك النجمة الصغيرة المضيئة من فمها تنتظرها كمن ينتظر طلّة صباحٍ هاجر نحو العتمة منذ دهرٍ عتيق.

الأم يا البسمة العذراء على وجه الكون المجبولةً بتواضع الإفتخار بالخلق رحماً يحضن صخب الدنيا ومتاعها وثرواتها وأنوارها وطقوسها وفصولها،

هي اللثغة الأولى في أذن الحياة الملفوفة أبداً بقوة خفيّة تقينا التعثر والضياع وتساوي لحظة الخلق في الثواني لا في الأيام السبع، لتراها تصلي همساً وتقول:

هو/هي نبضة القلب الأولى في صدور ملائكة السماء تحاوره ويحاورها.

تركض الأمهات، في زوايا البيوت والشوارع وخلف الأطفال حتّى تيبس أعمارهن وتسقط كورقة خريف نسي أن يمضي.

العيد في وجدانها لحظة تفتح البرعم متناولاً اللقمة الأولى من أياديها لتملك أجيالاً من العصافير التي تبسط الربيع فوق الأرض كلّ آذار.

أتذكّر أمي وكلّ الأمهات....وكلّ أمّ في لبنان أمّي

أحدّق في ملامح السماء الحزينة بحثاً عن وجهك العتيق يمرّ بغيمةٍ فوق مكانٍ خاوٍ كان إسمه لبنان.

أضاع لبنان إسمه وأهله فقد شاخ أو جعلوه يشيخ ويلحق بهم قهراً وموتاً وقد صار وصاروا على أبواب القبور وهو يتفرّج عليهم من فوق ويصمت. صار اللامكان.

في اللامكان تبحثون عنها أمّاً وطناً تقبلون هدبيها ويديها وأبحث عن رسمها عيداً أعلّقه بحبري قنديلاً مع كلّ حرفٍ أعصر كلّ آذارٍ وفصل فوق النوافذ المفتوحة أعلقه على الفجائع في اللامكان. وأصرخ:

أين أنت يا أمّي!!!!!!!!!! أين أنت يا أمّ لبنان؟

تترك القرى بيوتها الترابية، تلفّ وجهها من برد الصباح وتتبع خطاك كما كنت أمي.

باسم عطش الزيتون قرع أبي باب بيتك حاملاً إبريقه الفارغ أيتها الصبية قبل أن تكوني أمي،

ونحو الزيتون مشيت على رؤوس أصابعك...رحتِ القطاف حبةً حبة. تعصرين المستقبل بين يديك فوق الخوابي لربّما تتمايل الأرض وترقص.

منذ مليون سنة وبعدها بمليون وكلّما صافحتها أو لمحت صورتها طيفاً معلّقاً برموشي وحككت أنفي أو مسحت حزني بأكمامي، فاحت منّي رائحة الزيتون.... والصنوبر والقندول وزيتون الكفير ينام أميراً فوق ثلج حرمون تحرسه النسور.

كنت قنفذاً عصيّاً قفزت حافياً شريداً نحو الفضاء فوُلدت ثانياً وثالثاً وأحببت كلّ مكانٍ في الأرض سوى هذا اللبنان.

لكنّ الرحم يبقى أصلب من ابتكارات الذكور وصلاباتهم في الأرض والتاريخ.

***

من يُحسن القراءة في عيون الأمهات يرسم ملامح وطنه الآتي

من يعرف محاصرة الدموع والأحزان المحشورة في وجوه الأمهات يُدرك معاني التشقق في أرض الوطن وسقفه وسمائه ودستوره ونظامه وتاريخه في اجترار.

من قبّل يدي أمه وعانق صليبها وهي المصلوبة عليه منذ دهرٍ في جحيم لبنان بصيغة الجمع، وكأنها غابة مبللة بالمطر المُترف بالدموع والأحزان والفاقة والهموم والخوف والأوجاع المُزمنة وفقدان الدواء يكون قد لمس الخطوة الأولى في درب تغيير الحياة، ونسفها والثورة على هذا الواقع اللبناني بما ملكت يداه ولتسقط الحواجز والجدران والممالك المذهبية المُذهّبة والطائفية والسياسية والمصرفية ولو لفّتكم الكهولة.

الموت أفضل وأرقى من مناظركم يا باذري مزارع الذل اللبناني الوحشي المصنوع والمدروس والمتمادي وأنتم حفنة اغتلتم في عقولكم الإنسان والأوطان وقد مرّغتم أمهاتنا وأجيالنا بالجهل والجريمة والقبور التي لن نُقفل أبوابها حتّى تنتهي ذراريكم في الأرض وفي الفضاء.