بدأنا صَومَنا الأربعينيّ المُقَدَّس بأحدِ الأرثوذكسية، الأحدِ الذي فيه نَرفَعُ الأيقوناتِ المُقدَّسة تذكارًا بانتصارِ الإيمانِ المُستَقيم. فوجودُ الأيقونة في كنيستنا مُرتَبِطٌ بإلهنا الذي تأنَّس مِن أجلنا. كيفَ لا وهو الذي أحبّنا حتّى الْمَوْت!.

هكذا إذًا نَكونُ قد افتتَحنا صَومَنا الأربعينيّ بالعاشِقِ الذي نَزلَ مِن السماواتِ ليتّحدَ بِنا، ويُعطيَنا الحياةَ الأبديّة.

نَختَتِمُ الفترةَ الأربعينيّة مِن الصَّومِ بتذكارِ قِدّيسةٍ عظيمَةٍ مِنَ القرنِ الخامِس الميلادِيّ، ألا وهيَ البارَّةُ مريمُ المِصريَّة.

عرفَت هذه القدّيسةُ هولَ الخطيئةِ لسَنواتٍ كثيرة، وعَبَرت مِن قَباحَة الجَريرَة إلى جمالِ النُّورِ الإلهيّ. وأمضَت ٤٥ سنةً تَعبُرُ بِتوبَةٍ عميقَةٍ في بَريّة الأردن. فتحوَّلت مِن عاشقةٍ للفُجورِ إلى عاشقةٍ للمَسيح.

ومِسْكُ خِتامِ تَنَسّكِها كان لقاءَها بكاهِنٍ يُدعى "زوسيما" الذي ناولها القُدُساتِ حينذاك، أيّ جسدِ الرّبِّ ودمَهِ الكَريمَين. والذي حين رجَعَ إليها بعدَ سنةٍ ليناولَها مِن جَديد، وجد أنَّها قد رقَدت في اليومِ التالي لتناولِها القُدُسات في العامِ المُنصَرِم.

كتبَ هذا الأبُ الرَّاهبُ قِصَّةَ القدّيسة مريم واصِفًا لَحظَةَ مناولتِهِ إِيّاها، فقالَ إنَّها قد سَجدَت حينها بخشوعٍ كبيرٍ، وقد ماثَلت سِمعانَ الشَّيخَ بدُعائِه، عندما حَملَ على ذراعيه الطِّفلَ الإِلهيَّ، الرَّبَّ يسوعَ المسيح، ورفَعَت يدَيها نحوَ السَّماءِ وقالَت: "الآنَ تُطْلِقُ عَبْدَتَكَ يَا سَيِّدُ حَسَبَ قَوْلِكَ بِسَلاَمٍ، لأَنَّ عَيْنَيَّ قَدْ أَبْصَرَتَا خَلاَصَكَ" (لوقا ٢: ٢٩-٣٠).

بالإضافةِ إلى أَنَّ القدّيسةَ مريمَ المِصريّةَ قد أصبحَت أيقونةً للتَّوْبَة، فهيَ تَضَعُ أمامنا سؤالًا في غاية الأهميّة، ألا وهوَ حقيقةُ إدراكِنا لأَهمِيَّةِ تناوُلِنا القُدسات.

نقرأُ في العهدِ الجديد أنَّ الرَّبَّ أسَّسَ هذا السّرَّ في العشاءِ الأخيرِ مع تلاميذِه قَبلَ أن يُسَلِّمَ نفسَه للصَلب. وقد قال قَبلَ ذلك لليهود عَلانِيَّةً: " جَسَدِي مَأْكَلٌ حَقٌ وَدَمِي مَشْرَبٌ حَق"! (يوحنا ٥٥:٦).

كما ويذكرُ لوقا الرَّسولُ في سِفرِ أعمالِ الرُسل، في بدايَةِ انطلاقِ الكنيسة كَيف كان المؤمنون: "يُواظِبونَ عَلى تَعْليمِ الرُّسُلِ، وَالشَّرِكَةِ، وَكَسْرِ الْخُبْزِ، وَالصَّلَواتِ" (أعمال ٤٢:٢).

نلاحظ، إذًا، مِن هذه الآية، أنَّ "كَسْرَ الْخُبْزِ" هو مِن الأُسُسِ الأربعة في تأسيسِ الكنيسة. وقد حذَّرَنا بولسُ الرَّسول مِن الاستِخفافِ بِه، وعلَّمَنا أن نكونَ تائبين قبل التقدُّمِ إلى المناولَةِ المُقدَّسة.

إنّه لَسِّرٌّ عظيمٌ يَفوقُ إدراكَنا البَشريّ. كيف يُمكِنُ أن نَفهمَ عَقليًّا أنَّ اللهَ تَجَسَّدَ، وأنَّه الخبزُ النازِلُ من السماء، وَقَولَهُ "إِنْ لَمْ تَأْكُلُوا جَسَدَ ابْنِ الإِنْسَانِ وَتَشْرَبُوا دَمَهُ، فَلَيْسَ لَكُمْ حَيَاةٌ فِيكُمْ" (يوحنا ٥٣:٦).

يُعثِرُ هذا الكلامُ كلَّ مَن يحاولُ أن يَحدَّ الخالِقَ داخِلَ عَقلِهِ المَخلوق. لهذا نقرأ أنَّ هناكَ بعضًا مِن الذين كانوا يتبعونَ يسوع قد تَعَثّروا مِن كلامِه هذا. فعندما سألَ الرَّبُّ يسوعُ تلاميذَه إنْ كانَ كلامُهُ هذا قد عثَّرَهُم، أجابَه بطرسُ: "يَا رَبُّ، إِلَى مَنْ نَذْهَبُ؟ كَلاَمُ الْحَيَاةِ الأَبَدِيَّةِ عِنْدَكَ، وَنَحْنُ قَدْ آمَنَّا وَعَرَفْنَا أَنَّكَ أَنْتَ الْمَسِيحُ ابْنُ اللهِ الْحَيِّ" (يوحنا ٦٨:٦-٦٩).

إنَّ عَيشَ الإيمان بتواضِع، يكشفُ للإنسان أنَّ المسيحَ هو المبادِر، وهوَ الذي كشفَ نفسَه لَنا. فكلُّ مَن يقترِب إليه يَعي ثِمارَ هذه القُربى والسَلام الذي ليس هو مِن هذا العالَم.

هذا هو سِرُّ الإفخارِستِيَّة العظيم، أيّ سِرُّ الشُكر. فنحن نشكر اللهَ على تَأَنُّسِه وفِدائِه لنا بدمِه الكريم، وَوَهْبِهِ لنا جَسَدَهُ وَدَمهُ الكريمَين مَأكلًا حقًّا ومَشرَبًا حَقًّا.

هذا تمامًا ما جَعَلَ كثيرًا مِن القدّيسينَ يَستشهدونَ مُعتَرفين بِالمسيح، وَواثِقينَ مِن انتقالِهم إلى الحياةِ الأبديّة. كما أنَّ هذه هِيَ حياةُ القدّيسينَ الذين يَضعونَ الرّبَّ أولويَّةً في حياتهم، وَيَسعَونَ للاتِّحادِ به، فتصبحَ سيرَتُهُم مَنارَةً تُنيرُنا في طريقِ جِهادِنا.

وهناكَ شهاداتٌ كثيرةٌ على هذا السِّرِّ مِنَ القرنِ الأوَّل، وأهمُّها كُتِبت في كتابِ الذيذاخِيَّة (١٠٠-١٥٠م)، الذي يقولُ بوضوح تامّ: "اجتمعوا نهارَ أحدِ الرّبِّ واكسِروا الخبزَ وقَدّموا الشُكرَ للهِ بعدَ أن تكونوا قد اعترفتُم بخطاياكم، لتكونَ تقدمتُكُم نَقيَّة".

كذلكَ على سبيلِ المِثال وَليسَ الحَصر، يقولُ القدّيسُ إغناطيوس الإنطاكي مِنَ القرنِ الأوَّل، إنَّ الإفخارِستيَّةَ هي الوحيدة، المُعتَبَرَة جدِيَّة وناجِعَة، هي التي يُحييها الأسقف، أو مَن سَمَحَ له الأسقُفُ بذلك (أيّ الكاهِن). كَما يَتَكلّمُ بإسهابٍ عن إقامَةِ هذا السِّرِّ الذي هو جَسَدُ المسيحِ ودمُهُ الكريمَين.

وإذا سُئِلنا عن ماذا يوجَدُ بَعد الإفخارستيّة؟ لأَجَبنا: "المَلكوت السَّماوي"!.

كانت هذه حالُ قدّيسةِ الأحدِ الخامِس مِن الصَوم، حيثُ نُشاهِدُ أيقوناتٍ لمَريمَ المِصريَّةَ تُصَوِّرُها وهِي تَتَناوَلُ القَدساتِ مِن يَدِ الكاهِنِ زوسيما.

هذا المَشهدُ يَجعلُنا نُعيدُ كلَّ حساباتِنا، هذا إذا كُنّا حَقًا صادقينَ مع أنفسِنا. فالقَصدُ مِن الفَترة الثانيةِ مِن زَمنِ التريودي، يَصلُ بِنا إِلى خَواتِمِه، قَبلَ أن ننتقلَ مَساءَ أحدِ الشَعانين، إِلى الدخولِ في الأَسبوعِ العظيمِ المُقدَّس، لنحتفلَ بعدَهُ بالقيامَةِ المَجيدةِ في زمنٍ جديدٍ، آملِينَ أن نكونَ قد خرَجنا مِن قبرِ خطايانا وَوُلِدنا مِن جَديد.

تُعلِّمُنا القدّيسةُ مريمُ المِصريَّةُ أَلّا نَيأَسَ مِن خطايانا وَلا مِن خطايا الآخَرين، لأَنَّ التَوْبَةَ الصادقَةَ هي القيامَة.

أمّا انتقالُنا مِن العِشقِ التُرابيِّ الفاني، مَهما عَظُمَ، إِلى العِشقِ الإِلهيِّ الباقي، فهوَ الاعترافُ بِخَطايانا، كَما فَعلَت قِدّيستُنا. وَيَتبعُ هذا الاعتراف، تَغييرٌ حقيقيٌّ لِمَسلَكِيَّتِنا لنَسيرَ في طريقِ الرّبِّ القُدّوس. عِندئِذٍ ستُؤازِرُنا النِعمةُ الإِلهيَّةُ وَتجعلُنا أَحرارًا، فَنَعِيَ حَقًا أنّنا أبناءُ اللهِ بالنعمَة، وَأَنَّ الرَّبَّ ينتظرُ عَودَتَنا بِشَوقٍ كبير.

هناكَ نصائحُ كثيرةٌ في عالَمِنا اليوم تَدعو الإنسانَ إلى أَن يَثِقَ بنفسِه، وَيكتشفَ قُوَّتَه، وَأَلا يخافَ مِن أَيِّ شَيء. هذا جيّدٌ، وَلَكنَّ المسيحيَّةَ تقولُ لَه أَكثرَ مِن ذَلك: "ثِقْ يا إنسانُ أنَّ اللهَ خَلَقَكَ لِتَتَقَدَّس، وَأعطاكَ كُلَّ القوَّةِ لتحقيقِ ذلك إذا أرَدتَ. فادخُلْ إِلى أعماقِ نَفسِك، واكتَشِفْ ملكوتَ اللهِ في داخِلِك. لا تَخَفْ مِن أيِّ شَيء إِن كنتَ حَقًا تسيرُ في طريقِ الرّبّ، ولكِن في الحَقيقة، احترِسْ مِن نَفسِكَ إذا لم تَقتَنِ مَخافَةَ الله، لأنّكَ ستَتَحوَّلُ حينئذٍ إِلى وَحشٍ أَكثرَ ضَراوةٍ مِن الوحوشِ الضارِيَة".

عَبرَت القدّيسةُ مريمُ المِصريَّةُ مِن ضِفَّةِ الظُلمَةِ إلى ضِفَّة النور، وعَلَّمَتنا أَلّا نَنخَدِعَ بالخطيئةِ وبِفَرحِها الكاذِب، لأّنَّها سوفَ تُدَمِّرُنا لا مَحالَة. بل أَن نَسعى إِلى تَوبةٍ دائِمَة. لأَن الربَّ يسوعَ هو الحياةُ، وَمِن دونِه سقوطٌ ومَوت.

إلى الرَّبِّ نَطلُب.