إنَّهُ السؤالُ الأكثَرُ إلحاحاً: هَل لبنانُ وَطَنٌ يَموتُ؟ وَتالياً الى أيِّ حَدٍّ يَرتَبِطُ الإيمانُ بِهِ بِتَرَقُّبٍ لِنِهايَتِهِ؟ والجَوابُ عَلَيهِ لا يَرتَبِطُ بِلبنانَ كَرؤيَةٍ، بِقَدرِ ما يَندَفِعُ صَوبَ الرِسالَةِ-لبنانَ لِيُحاوِلَ تَقَصِّيَ ما قَد تَعني بَعدُ هَذِهِ الرِسالَةُ... إذا ما إنهارَ الرَجاءُ بِها؟ التاريخُ وَحدُهُ لا يَستَخلِصُ إعلاناً لِتَرَقُّبٍ بَل مَعرِفَةً لِواقِعٍ حَدَثَ. لَيسَت إذاً المُعطَياتُ التاريخِيَّةُ بِكافِيَةٍ وإن تَجاوَزَت جَذرِيَّاتُها مَنَهَجيَّاتٍ وَصِيَغاً وَعَقائِدَ، إذ لا يُمكِنُ تَنقيَتُها مِنَ العُنصُرِ الشَخصانيِّ. فَكَيفَ تَكونُ بُلوغاً الى الحَقيقَةِ وَتفَحُصِّها؟.

وأبعَدُ مِن ذَلِكَ، كَيفَ يَشهَدُ لبنانُ لِحَقيقَتِهِ بإستِمرارٍ، مِن دونِ سَيلِ التَعابيرِ الساذِجِةِ، بِما يُؤَسَّسُ عَلَيهِ واقِعاً ضِمنَ يَقينٍ مُعاكِسٍ لِلوَهمِ؟ بالواقِعِ، لَيسَ بالمُعطى العَدَدِيِّ وَلا بالإنعِكاسِ التَقَوَوِيِّ يُفهَمُ لبنانُ، إذ بِهِما تَعَلُّقٌ باللاغَوصِ الى الأعماقِ.

المُنطَلَقُ أنَّ لبنانَ رائِدٌ لِمَسيرَةٍ دائِمَةٍ مِنَ الجُذورِ وَمَعَها... وَبإتِّجاهِها. لا لِمُجِرَّدَ وَميضٍ سابِقٍ.

جَليٌّ عِندها أنَّ لبنانَ مِحوَرٌ لا تَخَلٍّ عَنهُ، لا قَبلَ الكِرازَةِ بِريادَتِهِ وَلا بَعدَها، فالكِرازَةُ بِهِ إنطَلَقَت مِنَ اللهِ نَفسِهِ الذي أوجَدَهُ، مُظهِراً نَشاطَ سُلطَتِهِ الحَيَّةِ على وَطَنٍ مِن أرضٍ لإنسانٍ. والتَنَبُّهُ لِهَذا التَوثُّبِ يَقودُ الى مِعنى حَقيقَةِ الرِسالَةِ-لبنانَ: هي مُندِرِجَةٌ في إيمانٍ لِوَعدٍ، واقِعُهُ مُتَجَسِّدٌ. وَهَذا لا يَتَجلّى في مَطامِحَ تَتسَيَّسُ بَل في تَسامٍ مِن رَجاءٍ يَنطَلِقُ مِنَ اللهِ وإلَيهِ، وَمِنهُ الى الإنسانِ لِتَظهَرَ قُدرَتُهُ على الأخَصِّ في أوضاعَ يائِسَةٍ... وَتَحديداً على الصَليبِ. وأن يَكونَ لبنانُ قد إقتَبَلَ فَهمَ جَوهَرِهِ مُتَعَلِّقاً بإرادَةِ اللهِ، فَهَذا يُضفي عَلى رِسالَتِهِ طابَعَ دَينونَةٍ فَردانِيَّةٍ وأخلاقِيَّةٍ.

أأقولُ أنَّ شَهادَةَ لبنانَ كَعَلامَةٍ لِلعالَمِ هي لبنانُ عَينُهُ، في ذُروَةِ تَسَلُّطِ مَن يَبتَغي هَلاكَهُ؟.

أجَل! في ذُروَتِها، تَظهَرُ الرِسالَةُ-لبنانَ نِعمَةً تُعرَضُ مُدَماةٍ، لِتُقبَلَ. قُلّ: في الراهِنِ، يُتَحَقَّقُ فَهمُ لبنانَ، لا في نَظَرِيَّاتٍ وَلا في هُروبَ الى تَوَهُّمٍ. هو إذاً أكثَرُ مِن مُعجِزَةٍ في مَكانٍ لِزَمَنٍ: إنَّهُ كُلِيَّةُ إدراكٍ يَشمُلُ الإهتِداءَ إلَيهِ، وَيَدعو لِتَحقيقِهِ.

بِذَلِكَ، فالكِرازَةُ بالرِسالَةِ-لبنانَ بَهاءٌ مِن فَرَحِ تَقَصِّي القُوَّةِ في الآلامِ. أهوَ نُقطَةُ الإلتِقاءِ بَينَ اللهِ وَمَصيرِهِ في الإنسانِ، التي تُوَجِّهُ الأعماقَ حينَ يَتِمُّ بُلوغُها؟ قُلّ لِذَلِكَ هوَ لَيسَ مُجَرَّدَ حَدَثٍ، بَينَ الوضوحِ والغُموضِ. إنَّ آلامَ لبنانَ تَضَعُ حَدَّأ لِلتَغَرُّبِ الذي يُغرِقُ في الغُموضِ وَيُعمي عَنِ الوضوحِ.

الليبانولوجيا

فَلنُشَدِّد: ألَيسَ لبنانُ نَفسُهُ مِنَ اللهِ، واللهُ يَعمَلُ في العالَمِ؟ مِن هُنا وِحدَةُ الكِرازَةِ بالرِسالَةِ-لبنانَ قَبلَ آلامِهِ وَفيها وَبَعدَها: فَلبنانُ تُميتُهُ الآلامُ، وَهوَ لا يَخشاها كَما لَو أنَّ المَوتَ مِنَ المُحَرَّماتِ. لَكِنَّهُ وَحدَهُ يَقومُ مِنهُ، لأنَّ سَيادَتَهُ مِنَ اللهِ الذي أطلَقَهُ. أجَل! عالَمُ المَوت يَحجُبُ المَوتَ بإنحِلالاتٍ تُهَمِّشُ أساسَ وَعي الحَياةِ. في هَذِهِ العَدَمِيَّةِ، يُغرَقُ المَوتُ عَينُهُ، بِداعيَ التَغَلُّبِ على الوجودِ، في هُوَّةِ "أمرٍ طَبيعيٍّ"... يَنزَعُ الإنسانيَّ عَنِ الإنسانِ.

في ذَلِكَ مُقاوَمَةُ لبنانَ: بِمَوتِهِ عن العالَمِ، مَوتُهُ مُفتاحُ بُلوغِ ما هو الإنسانُ بالتَحديدِ... واللهُ بالتَحديدِ.

هي ليبانولوجيا، عِلمُ عُلومِ لبنانَ... في عَقلِ اللهِ، مِنهُ وإلَيهِ، فاتِحَةُ الإنسانَ على الخُلودِ.

هَكَذا تَتَحَوَّلُ الكِرازَةُ بالرِسالَةِ-لبنانَ مِن مَقولَةٍ زَمَنِيَّةٍ الى قاعِدَةِ الوجودِ: لبنانُ يَستَشهِدُ لِبُلوغِ يَقينِ الحَياةِ. وَهَذا أكبَرُ بِكَثيرٍ مِن تَركيبِ تاريخٍ لِإفهامِ حاضِرَ، والإضاءَةِ على مُستَقبَلِ.