نحن شعب خبير بـ«النق» فـ«النق» باتَ ثقافة ملازمة لحياتنا اليوم. لنا كلف غير مسبوق في الدخول بالتفاصيل لدى توصيف الحال التي نرزح تحت أثقالها.

كندابات القرى اللواتي يبكين فوق رأس الميت نردد تعابير متشابهة، مصطنعين النواح، ورفع الصوت، متوسّلين «اللطم» للفت الانظار، وتحقيق «النجومية».

من يسمع أولئك الذين تستصرحهم الشاشات والاذاعات من مواطنات ومواطنين، ومحللين من قياسات «محيرة»: سياسيون او استراتيجيون، يضع يده على قلبه، ويقول: «يا رب الطف».

لكن هذا هو لبنان: أصوات عالية ترغي وتزبد، ولا احد من أصحابها ينخرط في ثورة حقيقية، فاعلة ومؤثرة، بعيداً من «الشانتاج» والشعبوية الفارغة.

نقول لمن يقد الحرب الكلامية بنبرة مرتفعة، ومن يسوق - في تحليلاته - لحلول جذرية: كف عن اللجوء إلى واو الجماعة لدى إطلاقك الاتهامات. فعندما يسأل غالباً: من تقصد؟ يجيب «هنّي». و»مين هنّي»؟. ربك هو العليم.

وعندما تلح: لماذا لا تنزل إلى الشارع، وتضغط، ولا تغادره الا ظافراً، محققاً ما تناضل لأجله، يجيب: «شو موقفي عليّي وحدي!».

في لبنان الجميع مسؤول: السياسي والمهمل، الموظف المرتشي، المصرفي «شافط» ودائع الناس، التجار الذين اتسعت بطونهم وتخثرت ضمائرهم، أصحاب الشركات الكبرى وهم الفئة الحاكمة، المتحكمة باحتكارها، وقد انعدمت فيهم روح الانسان. لكن المسؤول قبل كل هؤلاء، هو الشعب اللبناني. فكل من نشكو منهم، هم من عجينة هذا الشعب، فإمّا تصلح لإنتاج أرغفة سليمة الاستدارة «مقمرة» وشهية، وإمّا «طلامي» معوجة الشكل، «محروقة» الجانب، «مقرمدة»، تعلك علكاً. ويبدو أن معجن لبنان ناشط في تصنيع هذا الصنف.

انا لا احب استعارة الأمثلة التي اعتادت عليها آذان الناس. لكن لا بأس من التذكير: «كما تكونون يولّى عليكم».

ومن خلال متابعتي الدؤوب لتطور الأوضاع في لبنان منذ السابع عشر من تشرين، أيقنت أن لا تغيير حقيقياً في لبنان. وأن الهبات الشعبية التي شهدتها ساحات العاصمة والمدن، كانت كـ«جبل النار» الذي كنّا نشعله في الأعياد والمناسبات مع سواه من الألعاب النارية: يهب ويخمد في كسر الثانية. لكن هذا الكسر لم يكن ذا فائدة. ولئن أفاد البعض من «تغييريين» و«تقليديين» من كسر الحاصل، ليدخلوا «المجلس النيابي آمنين».

كيف يمكن بناء بلد، بل وطن، تمكنت منه ثقافة «المعليشية»،»شو وقفت عليي» «يصطفلو»، «حادِت عن ضهري بسيطه»، و«هني».

دائماً «واو» الجماعة، فلا تخصيص او تسمية. وإن صادف، وانقلبت المقاييس، وبدأت خيوط الأسماء تكرّ على الالسنة، فلا رغبة في اصلاح، أو تقويم اعوجاج، بل انفاذ لـ«أجندات»، وتصفية لحسابات، والامثلة كثيرة.

التغيير الحقيقي، يعكس نزعة نبيلة على طريق الإنقاذ الذي يحتاجه الوطن، وليس «آرمة» يَلطو وراءها أصحاب الطموحات الملتبسة، أو الوصوليون، أو الساعون إلى تبييض ما ارتكبوا من تجاوزات، وما اقترفوا من انتهاكات عندما كانوا في المسؤولية، وفي ظنهم أن ارتفاع أصواتهم بالمعارضة والتنديد، والتحريض على الثورة، يمنحهم صك براءة على بياض، ويساعدهم على «تدوير» انفسهم، فيَطلّون على الحياة العامة بوجه جديد وطلاء مختلف، ولسان مناقض للسان سابق وظّفوه في المديح والاطراء، ولحس أقفية من كانوا أولياء نعمتهم.

الثورة لا تعني بالضرورة عنفاً ماحقاً، ولا هدماً للاسس وطمساً للاصول. والتغيير لا يعني تبديلاً مصلحياً للمواقف، وفقاً للاحوال وتقلباتها، كتبديل الثياب. الفارق كبير بين تغيير الواقع السياسي، الاقتصادي، الاجتماعي، وتغيير الازياء. فلبنان ليس محلاً لـ«النوفوتيه».

انه وطن مُبتلى بكثير من الآفات التي لا يكفي تشخيصها، بل الواجب التصدي لها بالعلاج المناسب، على يد احترافيين يملكون إلى العلم، النزاهة، الاخلاص، والرؤية، وقبل اي شيء الولاء للبنان ومصلحته. فلبنان اماته أسلوب «الطبيب الشعبي» الذي كان يجوب بلداته وقراه، مُنادياً على عقاقيره الشافية، وكانت في معظمها حجابات تغلف اوراقاً مطوية تتضمن ادعية، وكلمات مبهمة». اي ان الطلاسم كانت خريطة الطريق الى الشفاء. وبعض الثوريين اليوم، يتصرفون كهذا الطبيب، معتبرين أن السوق هذه الأيام هي للتغيير والتغييريين، فكان أن اقدموا على طريقة: «من حضر السوق باع واشترى».

من امثالنا العامة: «من أصلك عوجه، يا عوجه». وتقويم الاعوجاج لا يكون برفع الصوت شتما وانتقادا و«النق»، واعتبار ان «الآخر هو جهنم». بل ببناء الانسان اللبناني الجديد على قيم مختلفة عن تلك التي نشأ عليها منذ عصور، وقيام ثقافة الالتزام الحقيقي بالوطن وقضاياه، وهذه ليست مسؤولية الدولة (الدائمة الغياب) فحسب. إنما هي قبل كل شيء مسؤولية الاهل، المدرسة، المؤسسة الدينية، النخب الفكرية والثقافية. لا نفضة للوطن المنكوب بمشكلاته والرزايا المتوالية عليه، من دون نهضة للمواطن، تحدث فيه عصفاً ايجابياً، يقلب سلم أولوياته المتوارثة والمتهالكة، وتنفح فيه الروح التغييرية المنشودة. فتبدأ معه رحلة الألف ميل. كم هي بليغة الآية الكريمة: «إن الله لا يغيّر ما بقوم، حتى يغيّروا ما بأنفسهم».