تُظهرُ صفحات الكتاب المُقدّس، بَدءًا مِن العهد القديم، ومِن أُولى صفحاتِ سِفْر التكوين، إلى آخر آيَةٍ في العهد الجديد، في سِفْر الرؤيا، تُظهرُ أنَّ الربَّ يبحثُ دائمًا عن الإنسان، الذي خلَقَه ليُقدّسه، إن قَبِل هذا الأخيرُ مشروعَ اللهِ الخلاصيّ.

فعندما يقول الرّب: "نَعَمْ! أَنَا آتِي سَرِيعًا" (رؤيا20: 22)، معناه أنّه معنا على الدوام من أجل خلاصنا، وهذا ما نختبره في مسيرة حياتنا، لأنّه يبحث عنّا دائمًا.

لهذا، إنَّ البحثَ الإلهيّ عن الإنسانِ غيرُ محصورٍ في صفحاتِ الكتاب المقدّس فقط، بل إنَّه يَملأ صفحاتِ حياتِنا كلِّها، في كلّ أقطارِها وأصقاعِها. وما نقرأُه في الكتابِ المقدَّس، ما هو إلّا أمثلة عن افتقادِ الله للإنسان.

فبَعدَ أن خالفَ آدمُ وصِيّةَ خالقِه، وانصاعَ لخِداع الشيطان، ناداه الرَّبُّ وَقَالَ لَهُ: «أَيْنَ أَنْتَ؟» (تكوين 9:3). فقد كان آدمُ وحواءُ يَختبئانِ خَجَلًا مِن الرَّبِّ عندما سَمعا صوتَه ماشيًا في الجنّة "عِنْدَ هُبُوبِ رِيحِ النَّهَارِ"، أيّ عندَما أشرقَ نورُ الرّبِّ في وَسَط الجنّة. فالنهارُ هو "الإشراقُ" في لغَةِ الكتاب، عَكس الليلِ والظُلمَة.

اختبئا مِنه لأنّهما كانا يُدركانِ أنّهما قد أخطآ، فخَشِيا أن يَنظرا إلى وَجهِ الرّب. طَبعًا كان الربُّ يَعرفُ مكانَ آدم، ولكنَّه ناداه ليقولَ له: أنتَ ابني يا آدم، وهل فعلًا تستطيع الاختباء عنّي؟ لقد أتيتُ إليكَ لأخلِّصَكَ مِن براثِنَ العدوّ. فهل ستُصغي إليَّ مِن جَديد؟.

هذا ما فَعلَه الخالقُ مع آدم، وسيفعله دائمًا مع كلٍّ منّا. وهذا ما رَتّلناهُ في الأسبوعِ العظيم المقدَّس، وتَحديدًا في جنّاز الرّبِّ القياميّ: "انحدرتَ إلى الأرضِ لكي تُخلّصَ آدمَ، ولمّا لم تَجدْه فيها أيّها السيِّد، انحدرتَ إلى الجَحيم تلتمِسُه".

هذه هي القيامَةُ المَجيدَة! لقد أتى الرَّبُّ يَبحثُ عنّا، يُنادي كلًا مِنّا باسمه. ومَن يَستجيبُ لصوتِه ينتشلُهُ مِن قَبرِِ خطاياه، ويَعبرُ بِه مِن الظُلمةِ إلى النور.

لهذا، ما هو معروفٌ شَعبيًّا بأنّها "أيقونةُ القيامَة"، هي في الحَقيقةِ أيقونةُ نزولِ الرَّبِّ إلى الجحيم. هذا الحَدَث العظيم، ما كانَ ليتِمَّ لو لم يتوجّهِ الرّبُّ يسوعُ المسيح طَوعًا إلى الصَلب.

فصرخَة يسوعَ على الصَليب: "قَدْ أُكْمِلَ[1]"، ثُمَّ أسلَمَ الرّوح، هي في الواقع "صَرخَةُ الحياة"، وصَرخَةُ قِيامَتِنا مِنَ المَوت، وصرخة الحياة الأبديّة التي وهبَها لنا الرَبّ. ويخطِئ مَن يفَسَّرها خلاف ذلك، أو يعتبرها بأنَّها "صرخَةُ المَوت".

فقَولُ الفادي: "قَدْ أُكْمِلَ"، كما دَوَّنه الإنجيليُّ يوحنّا باللغَةِ اليونانيّة "τετέλεσται / tetelestai" يَعني الكثيرَ الكثير، ويُلخِّصُ كلَّ تدبيرِ الرَّب الخَلاصيّ الذي أعدَّهُ مِن أجلنِا. فكلُّ ما تَنبَّأَ به الأنبياءُ في العَهدِ القديم، كان الخَلاصُ المنتَظَر، مُشتَهى كلِّ الأمم.

كذلك كانت هذه العبارة "قد أُكمِلَ" مَعروفةً في مَيادينَ مُختلفَة. فَعَلى سبيلِ المِثال، كانَ تَعني في الحقلِ التجاريِّ بأنَّ الديونَ قد سُدِّدَت بالكامِل paid in full ؛ وَفي الحَقلِ القانونِيّ تُشيرُ إِلى أنَّ الحُكمَ الذي قد لُفِظَ، تَمَّ تنفيذُهُ بحذافيره ؛ وأيضًا في الحَقل العَسكريّ كانت تُعلِنُ الانتصارَ والظفرَ، وأنَّ المعركَةَ قد رُبِحت، وَتمَّتِ السيطَرَةُ فيها بالكامِل.

كلُّ هَذا فَعَلهُ الربُّ مِن أجلِنا: دَفَع ثَمنَ خطايانا، وَحَرَّرنا مِن ثِقَلِ معاصينا؛ فَدانا بِدَمِه الكريمِ على الصليب؛ ونُفِّذَ فيهِ الحكمُ ليَفدينا. وهذا تمامًا ما تنبَّأ بِه إشعياءُ النبيّ: "هُوَ حَمَلَ خَطِيَّةَ كَثِيرِينَ وَشَفَعَ فِي الْمُذْنِبِينَ" (إشعياء 12:53).

أمّا المَعركَةُ مع الشرّير، عدوِّ الإنسان الأوحَد، فقد انتهَت بانتصارِ الرَّب. الذي، إذا اتَّحَدنا به، وَهَبنا الغلَبةَ الدائمَةَ على إبليس وكلِّ شرورِه. فالموتُ قد مات، وأصبَحنا بالرّبِّ قياميّين.

فَها نحنُ اليوم نَصرخُ: "المسيحُ قام"، وقد احتَفَلنا بِهذا الظفَر العظيم، وما زِلنا نردِّدُها ليتورجِيًّا إِلى يومِ وداعِ الفصح، قَبلَ عيدِ الصعودِ الإلهيّ.

لقَد بدَّدَت هذه الصَرخة كلَّ خوفٍ مِن قلوبِنا، وأَزالَت كلَّ شَكٍّ مِن نفوسِنا. فانضَمَمنا بِها مع توما الرسول، الذي نُقيمُ تذكارَه هذا الأحد، لِنهتِفَ معهُ نحوَ الرَّبِّ القائِم: «رَبِّي وَإِلهِي![2]».

فالذي حَدثَ مع توما، يَحصلُ اليومَ معنا. فالربُّ يَبحثُ عنّا على الدوام، كي لا نَبقى خارجَ فرحِ القِيامَة.

ففي خِدمةِ الفصحِ رَتّلنا: "اليومَ الخليقَةُ أجمعُ تبتهجُ وتفرَحُ، لأنَّ المسيحَ قد قام والجحيمَ قد سُبِيَ".

لنتَأَمَّلْ في هذِهِ الكلماتِ البهيَّة: إنَّ كلمةَ "اليوم" هي كلُّ يوم، وكلُّ لحظةٍ في مَسيرةِ حياتِنا. والدعوةُ هي لكلِّ الخليقَةِ في كلِّ مكانٍ وزمان. فهوَ الواهبُ الفرحَ الحقيقيَّ الذي لا يَفنی مَهما تلبّدَت غيومُ الحزنِ واليأسِ في حياتِنا.

ما قِيامةُ المسيحِ إِلّا قيامتنا مَعه، وغَلَبتنا على المَوت، لأنَّنا نقومُ معه بأجسادٍ ممَجَّدَةٍ إلى الحَياةِ الأبَدِيَّة، ونتحَرّر مِن زلاتِنا وانحرافاتِنا وعبودِيَّتِنا للخَطيئَة، التي لَو بَقينا فيها، لَخلَّدنا جَحيمَنا ومَكَثنا بَعيدينَ عن الله. فالجحيم هو أن نكون عبيدًا لخطايانا.

هذا ما أنشَدناهُ حاملينَ شُموعَ القيامَةِ، فيما كُنّا نَدخُلُ إلى الكنيسَة خَلفَ ملكِ المَجد، آملينَ أن تَبقى شُموعُ نفوسِنا مُشتَعِلة بروحِ الرَّبِّ القدّوس، لنَكونَ دائِمًا مَعَ عريسِنا السَماويَّ القائِمَ أبدًا.

إلى الرب نطلب.

[1]. يوحنا 28:19-30

[2]. يوحنا 20: 28.