كم هو سهل على الامم المتحدة ان تعمد الى التنظير والى القاء الدروس بالانسانية ومراعاة الآخرين، وهي لا تبذل اي جهد اضافي في سبيل العمل على ان تسود العدالة الاجتماعية والانسانية في العالم، وتكتفي بالوقوف متفرجة على ما يدور من احداث وتطورات، وتسير مكبّلة على درب الدول الكبرى ومصالجها وهي غير قادرة على فرض نفسها، فتعمد في المقابل على "الانتقام" من الدول التي تمر بصعوبات كبيرة. ولا يجب ان ننسى كذلك المنظمات غير الحكوميّة التي تتبع لها، والتي تعمد في الدول الموجودة فيها، على استعمال السياسة نفسها، فتصدح اصواتها في الدول الضعيفة وتختفي كليا في الدول الكبرى والقوية.

وقد يكون لبنان المثال الامثل لتجسيد الازدواجية في التعاطي مع الامم المتحدة، وبالاخص في موضوع النازحين السوريين. صحيح انه يجب تحميل جزء كبير من المسؤولية للبنانيين انفسهم الذين انقسموا (ولا يزالون) حيال التعاطي مع هؤلاء النازحين الذين تحول وجودهم من فرصة للهروب من الموت، الى مادة دسمة لفرض ما يريده المجتمع الدولي على لبنان.

في المبدأ، تعلم اللبنانيون التعاطي مع الامور بصيغة "الامر الواقع"، وهم من هذا المنطلق، باتوا يتعاطون مع تواجد النازحين السوريين على ارض لبنان بأعداد تفوق ما يمكن لاي بلد تحمله (باعتراف الامم المتحدة وكل الدول الكبرى)، وهو لا يتلقى من دعم سوى الشكر على الترحيب. تعتمد الامم المتحدة سياسة كم الصوت حين يتعلق الامر بالدول التي تقف في وجهها وتؤمّن مصالحها، ومنها على سبيل المثال لا الحصر تركيا والاردن ولا تتجرأ على الحديث عن ايّ امر يعتري العلاقة بين مواطني البلدين والنازحين السوريين هناك، وكأنّ العلاقة بينهم هي "سمن وعسل"، فيما الواقع يشير الى ان السوريين الذين نزحوا الى هناك يعيشون في مخيمات ووفق قوانين صارمة لا يمكنهم تخطّيها، ولا يمكنهم التغلغل في المجتمع التركي او الاردني، ولا ان يمارسوا اعمالاً، فيما لا يتلقون المساعدات الا عبر السلطات الرسمية، وهذا حق طبيعي للبلدين، وهو فاتورة ما يدفعه المرء ليهرب من جحيم الموت والحرب ويؤمّن العيش له ولافراد اسرته، مع المحافظة على كرامته. اما في لبنان، فالوضع مغاير تماماً، وتتحول الامم المتحدة واتباعها من بعض المنظمات غير الحكومية، الى مارد يدافع عن النازحين أكانوا على صواب ام لا، ويتسلّحون بالسلاح الامضى الذي يملكونه وهو "العنصريّة" ان انتفض اللبنانيون للدفاع عن انفسهم وعن ارضهم من خطر يدركه الجميع.

في الآونة الاخيرة، وعلى الرغم من "المساكنة" القسريّة التي ارتضاها اللبنانيون مع النازحين (الذين سيفوق عددهم بعد سنوات قليلة عدد اللبنانيين انفسهم في لبنان)، لا يخلو الامر من مشاحنات ومناكفات وصدامات تطرأ من وقت لآخر، وبدل ان يتم التعاطي معها على ما هي عليه، تتنطح الامم المتحدة وهذه المنظمات غير الحكومية باللجوء الى تعابير مسيئة ومؤذية كـ"العنصريّة"، وكانت قمّتها عما دار من كلام بعد ترحيل عدد صغير جداً من النازحين خالفوا القانون وهدّدوا امن البلاد والناس، فقامت القيامة حتى تمّ اتهام الجيش اللبناني ايضاً بالعنصريّة وبالتفريط في حياة هؤلاء. فهل باتت الامم المتحدة تشجّع الناس، وخصوصاً اللاجئين والنازحين، على مخالفة القوانين وتأمين الحصانة الامميّة لهم؟ اليس من الوقاحة القول بأن اللبنانيين باتوا عنصريين ارضاء لسياسة الامم المتحدة والدول الغربية التي ترفض عودة النازحين الى بلدهم لمصالح خاصة بها؟ هل تدري هذه المنظّمة العنصريّة وبعض المنظمات غير الحكومية التي تستقي افكارها من النبع السياسي نفسه، انها من خلال هذه المواقف انما تغذي الفتنة والحقد والكراهية بين اللنبانيين والنازحين وتجعل من فرص "المساكنة القسرية" اكثر استحالة؟ هل تتجاسر هذه المنظّمة المذكورة وبعض المنظمات غير الحكومية على اتخاذ الموقف نفسه في اي بلد آخر يستقبل نازحين سوريين على ارضه، واين هي الامم المتحدة والدول الاخرى من قرار فتح الابواب امامهم لانقاذهم من المصير المشؤوم، ام ان انقاذهم فقط يكون في لبنان؟ تهلّل الدول الغربيّة عندما تعلن استقبال عشرات النازحين على ارضها لا

يصل الى المئات، وتدافع الامم المتحدة عن هذه الدول نفسها حين تغلق حدودها البحرية والبرية امام موجات ممّن يتم خداعهم بالكلام "المعسول" غير العنصري، ليجدوا انفسهم امواتاً على شواطئ وحدود هذه الدول الحاصلة على "براءة ذمة" من العنصرية والتحيّز.

فلتطبق الامم المتحدة في لبنان مقولة: "اذا ابتليم بالمعاصي فاستتروا"، ولتكفّ عن تأجيج حدّة الخلاف بين اللبنانيين والنازحين السوريين، خصوصاً في هذه الظروف الدقيقة التي اصبح فيها التعايش بين الطرفين على "كفّ عفريت" ولا يحتاج الى دعوات "عنصريّة" ممّن يكتفي بارتداء ثوب اللاعنصريّة ويعمل عكسها.