تَنتصِبُ في دياميسِ روما، تحتَ سطحِ الأرض، جداريَّةٌ لرَجلٍ واقفٍ يَحملُ في يدِه اليُسرى بِذارًا، ورافعٍ يدَه اليُمنى يَرمي بها هذه البِذار مريدًا أن يزرعَها.

إنّها جِداريَّة مسيحيّة مِن القرنِ الثاني-الثالثِ الميلادي، تُمثّل الرّبَّ يسوع المسيح في هيئة الزارِع، بحسب ما جاءَ في المَثَل الذي علَّمنا إيّاه.

تُجسّدُ هذِه الجداريَّةُ مسؤوليّة كبيرة مُلقاة على كاهِل كلِّ مَن عرف المسيحيّة، إكليريكيًّا كان أَم عامِّيًّا. وبِقَدر ما يَغوصُ المَرء في المسيحيّة، تزدادُ مسؤوليَّتُه.

هذه المسؤوليّةُ هي زَرعُ الكلمةِ الإلهيّةِ في النفوس. والكلمةُ هي البشارةُ المستَقيمَةُ التي سلَّمنا إيّاها الرّبّ، وأَوصى بها تلاميذَه أن يُتمِّموها[1]، مؤكّدًا فيها بأنّه سيكونُ معنا إلى الآبد.

لا يُمكن لهذه المسؤوليّة أن نتمِّمَها إلّا من خلالِ شَرطَين متلازِمَين: "العمَل والتعليم". وقد أثنى الرّبُّ على ذلك بقولِه: "مَن عمِلَ وعَلّم يُدعى عظيمًا في مَلكوتِ السَمٰوات[2]".

هذا يعني أن نعملَ ونبشّرَ بما نؤمنُ به، على أن يكونَ هذا العملُ مِن أجلِ ملكوتِ السٰموات، وليسَ مِن أجل الأنا المكروهَة.

لذلك، كي لا تبقی الجداريَّةُ المذكورَةُ أعلاه مِن حَجر، وُجِبَ علينا أن نماثِلَ التلاميذَ الأطهار، وكلَّ مَن عاشَ الإنجيل، بالحُبِّ والإيمانِ والتَّوْبة.

فخَيرُ مثالٍ على ذلكَ هوَ حاملاتُ الطيبِ القدّيسات اللواتي تُخصِّص الكنيسةُ لهنَّ الأحدَ الثاني بعد الفِصح.

فهٰؤلاءِ النِسوُة مع والدَة الإلٰه، رافَقنَ الرّبَّ يسوع في بشارتِه، بجمالِها وصِعابِها.

فَقَد كُنَّ واقفاتٍ أمامَ صليبِ الرّبِّ يسوعَ مُتَحَدِّياتٍ المخاطِرَ، وَلَم يترُكنَه؛ ثُمَّ أتَينَ القبرَ باكرًا جدًا يومَ الأحدِ ليُطَيّبنَ جَسَدَ يسوع، رُغمَ أنَّهُنَّ عَلِمنَ بوجودِ الحرّاسِ أمامَ القَبر، الذي كان مُغلَقًا بحَجَرٍ كبيرٍ ومَختومًا بالشَمعِ الأحمر، وأنَّه لن يستَطِعنَ دَحرجَته.

مَعَ ذلك أَكمَلا مَسيرتَهُنَّ بِكلِّ إيمانٍ وَشجاعَة، فوَجَدنَ أنَّ الحَجَر قد دَحرَجَه مَلاك. إِنَّ عَزْمَهُنَّ هذا قد جَعَلَهُنَّ يَلتَقينَ بالربِّ الذي أوصاهُنَّ أَن يَحمِلنَ بِشارَةَ قِيامتِه إلى الرسل.

أطاعَتْ حامِلاتُ الطيبِ كلمةَ الرّب، وَعَلَّمنَ الأجيالَ الثباتَ في الإيمان. وكانت سيرتهنَّ متطابقة مع بشارتهنَّ.

يقولُ الربُّ يسوع المسيح في ذلك: " إِنْ أَحَبَّنِي أَحَدٌ يَحْفَظْ كَلاَمِي، وَيُحِبُّهُ أَبِي، وَإِلَيْهِ نَأْتِي، وَعِنْدَهُ نَصْنَعُ مَنْزِلًا"(يوحنا 14: 23).

عظَمَةٌ ما بَعدَها عَظَمَة! عكسُ ذلك ترابٌ بتراب، وسرابٌ بسراب، وخرابٌ بخراب.

حِفظ كلامِ الرَّبِّ يَعني العملَ به، وليسَ حفظَهُ في العقلِ دونَ القلبِ والروح. ومَن يراقبُ ماذا يحصلُ في العالَم، يَعي أن المفاهيمُ الإنسانيَّةُ الأساسيَّةُ تَفقدُ معناها الحَقيقيّ وتنحرف، وَتلبَسُ لباسًا مُغايِرًا لجَوهرِها.

هنا تُطرح الأسئلة:

مَن يَستطيعُ أن يزرعَ زَرعًا جَيِّدًا إذا لم يكن هو أصلًا أرضًا صالحَة للزَرع؟.

مَن يستطيعُ أن يَتَخَطّى مكائِد الشرير، ولا يُستَعبَدَ منها، إلّا الذي أفرغَ ذاتَه مِن كلِّ عبادَة للذات، وعَبَدَ المسيحَ وحدَه؟.

مَن يستطيعُ أن يَشُقَّ عتمَةَ ليلِ الخَطيئة، ويعاينَ النُّورَ البازِغَ مِن القبرِ الفارِغ، إلّا الذي يَعشقُ النُّورَ الإلٰهيّ؟.

مَن يستطيعُ أن يَبني في المجتَمع بِناءً صالحًا بالصِدقِ والمحبَّةِ والاستقامَة، إلّا الذي قد بنى منزلَه أوّلًا على الرّبُّ الصَخرةُ التي لا يستطيعُ أحدٌ أن يُزَعزِعَها؟.

يريدُ الرّبُّ أن نزدادَ مَعرفةً وحِكمةً وإيمانًا، لهذا قال: "الروحُ القُدُسُ يُعلِّمُكم"، بمعنى يؤازِرُ جُهودَنا وسَعيَنا الدَؤوب، مِن أجلِ أن ننتَقِلَ مِن مَجدٍ إلى مَجد.، المَجد الإلٰهيّ.

يقولُ الرّبُّ لنا اليَوم، وكلَّ يَوم، ما قالَه في السابِق: «إِنَّ الْحَصَادَ كَثِيرٌ، وَلكِنَّ الْفَعَلَةَ قَلِيلُونَ. فَاطْلُبُوا مِنْ رَبِّ الْحَصَادِ أَنْ يُرْسِلَ فَعَلَةً إِلَى حَصَادِهِ." (لوقا 10: 2).

الحقلُ هو حقلُه، والذي هو الإنسان. وهو يريدُ فَعَلَةً يعون قدس رسالَتِهم الإلهيّة.

يقولُ القدّيسُ مَكسيموس المُعتَرِفُ في ذلك: "ليسَ المهمَّ أن نعمَل، بل لِمَن نَعمَل؟". المَقصودُ بذلك، هل نحن نعملُ ليَتَقَدّسَ اسمُ الربِّ فينا، واسمُنا في الرّب، أَم نعملُ لأَهدافٍ شخصيَّةٍ بَحتَة؟

وإن أردنا أن نعرفَ صوابيَّةَ عَمَلِنا، وُجِبَ علينا أن نجعلَ كلامَ اللهِ حَكَمًا عليه، ونُصحِّحَ مَسارَنا دائِمًا نحوَ الرّبِّ المُحيي. فكلُّ انحرافٍ يَبدَأُ قليلًا ثمَّ يزداد، ويبعدنا عنِ الهَدفِ الإلٰهيِّ المَنشود، إن لم نَتفحَّصَ على الدَوام، قُربَهُ وَبُعدَهُ على ضَوءِ الإنجيل.

يُذكُرُ القدّيس باييسيوس الآثوسيّ، أنَّه في يومٍ مِن الأيّامِ بينما كان جالِسًا يُصَلّي كعادته، حصَلت معه رُؤيا، فوَجدَ نفسَه في مركبَةٍ جالسًا إلى جانبِ القدّيس أرسانيوس الكَبادوكي. وكانَت المركبةُ تُحَلِّقُ فوقَ بساتينَ وسهولٍ شاسِعَةٍ جِدًّا لا يُمكنُ رُؤيَةَ نهايتِها.

وكانَ يوجدُ في هذه الحقولِ عُمّالًا يعملونَ بكدٍّ ونشاط. فأشارَ القدّيسُ أرسانيوس إليهم، وقال للقدّيس باييسيوس: "قُلْ لهؤلاءِ أن يَستمِرّوا في عَمَلِهم وزَرعِهم، ولا يَخشوا شَيئًا، لأنَّ ربَّ الحَصادِ يهتمُّ بهم.".

هذا ما نَتَعلّمُه مِن عشّاقِ الرّب، الكَدَّ والعمَلَ الدؤوبَ، والشجاعَةَ والمعرفَةَ المُترافقَةَ معَ الإيمانِ والصلاةِ والتَّوْبَةِ والاتّحادِ بالرّب، وكلِّ عملٍ حَسَن.

فمريمُ المجدليّةُ، مَثَلًا، التي كانَ الرّبُّ قد أخرجَ منها سبعَةَ شَياطين، وبعد أن وُلِدَت مِن جديد، أصبحَت في ما بعدُ في مصافِّ حاملاتِ الطيب. فسافَرت إلى روما بعد قيامَةِ الرّب، وَدخَلت القَصرَ الإمبراطوري، حامِلَةً بِيَدِها بيضَةَ دجاجةٍ لونها أبيض، وقالت للإمبراطور: "المسيحُ قام!".

فأبى الإمبراطورُ أن يُصدِّقَ كلامَها، وقالَ لها ساخرًا: "لا أُصدِّقُ كلامَك، إلّا إذا تَحوَّلَ لَونُ البَيضَةِ التي تَحمِلينَها إلى أَحمر.". وهنا كانت المُفاجأة. ففي اللحظةِ عينِها، تَحوّلَ لَونُ البَيضَةِ إلى أحمَرٍ قاني! وَكانت بالتالي أوَّل بيضةِ فِصح.

ويوجد في كنيسةِ القدّيسةِ مريمَ المجدليَّة، التي شَيَّدَها الإمبراطور الإسكندر الثالث، في حديقَةِ جَثْسَيْماني في أورَشَليم، رَسمٌ لهذه الحادِثَة.

خلاصة، فكما دَخَلَ الرّبُّ يسوعُ بعدَ قيامتِهِ على التلاميذِ والأبوابُ مغلَقَةٌ وَوَقَفَ في وَسْطِهِم، نستطيع نحن أيضًا أن ندخُلَ القلوبَ المغلَقَةَ أبوابُها، ونُعلنَ فيها قيامةَ المسيح، على أن نكونَ قد قُمنا مِن قبرِ خَطايانا أوّلًا، حينئذٍ نستطيعَ أن نَلِدَ الآخَرينَ بالمَسيح.

إلى الرَّبِّ نَطلُب.

[1]. "فَاذْهَبُوا وَتَلْمِذُوا جَمِيعَ الأُمَمِ وَعَمِّدُوهُمْ بِاسْمِ الآب وَالابْنِ وَالرُّوحِ الْقُدُسِ. وَعَلِّمُوهُمْ أَنْ يَحْفَظُوا جَمِيعَ مَا أَوْصَيْتُكُمْ بِهِ.». (متى 19:28-20).

[2]. "مَنْ عَمِلَ وَعَلَّمَ، فَهذَا يُدْعَى عَظِيمًا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ." (متى 19:5)