إنَّه لَمِنَ العَجَبِ أنَّ لبنانَ رَحمَنٌ، إذ فيهِ تُكتَنَزُ صِفَةُ الرَحمَةِ على الكَثرَةِ مِن مؤمِنينَ وَكَفَرةٍ. أمّا الذُروَةُ فَفي أنَّهُ رَحيمٌ، والقَصدُ في صيغَةِ المُبالَغَةِ هَذِهِ أنَّهُ أرحَمُ بِعِبادِهِ. والمُنطُلُقُ صَرخَةُ الحافِظِ إبنِ كَثيرٍ في الجُزءِ السادِسِ مِن كِتابِهِ "البِدايَةُ والنِهايَةُ": "ليَفرَحَ أرضُ الباديَةِ العَطشى وَيُعطيَ أحمَدُ مَحاسِنَ لبنانَ وَيَرَونَ جَلالَ اللهِ بِمُهجَتِهِ".

أَمِنَ الدَيَّانِ عِصمَةُ لبنانَ، وَهيَ رَحمَةُ الرَحيمِ؟ ها سَبطُ إبنُ الجَوزي يَشرَحُ: "لَمَّا خَرَجَ إبراهيمُ مِن مِصرَ نَزِلَ جَبَلَ لبنانَ وأقامَ بِهِ مُدَّةً... فأَوحى اللهُ إلَيهِ إصعَدِ على رأسِ لبنانَ وانظُرِ أَيَّ مَكانٍ مِنَ الأَرضِ فَهوَ مُقَدَّسٌ". وَيُؤَكِّدُ شَهابُ الدينِ النُوَيريُّ "أنَّ اللهَ لَمَّا خَلَقَ الأَرضَ مادَتِ بِأَهلِهَا، فَضَرَبَها بِجَبَلِ السِراةِ فإطمأنَّتِ، وَهوَ أعظَمُ جِبالِ العَرَبِ وأَكثَرُها خَيراً... وَهوَ آخِذٌ مِن قَعرِ عَدنَ إلى أطرارِ الشامِ وَيُسَمَّى هُناكَ لبنانَ".

وَما المُؤمِنونَ بِهِ؟ مِن إبراهيمَ الخَليلِ الى موسى والخُضرِ والنَبيِّ الياسِ وَيونُسَ بِن متَّى (يونانُ النَبيِّ)، لبنانً الرابِطُ الروحِيُّ الأصفى، إذ هُم فيهِ على إتِّصالٍ بالأَبدالِ، هَؤُلاءِ الأَولِياءُ المُنقَطِعينَ عَنِ العالَمِ، والَذينَ لِأَجلِ زُهدِهِمِ يَصرِفُ اللهُ بِهِمِ العَذابَ عَن أهلِ الأَرضِ.

فَلنَعتَرِف أنَّ مُعضِلَةَ الإِنسانِ، مَنطِقُهُ العَينُ بالعَينِ والسِنُّ بالسِنِّ. والصُعوبَةُ أن تَرتَقيَ بِمَنطِقِ لبنانَ الى ما هوَ أبلَغُ: مَنطِقُ اللهِ. بِهِ، لبنانُ هوَ الأساسُ، وَما أساسٌ يَكونُ إن لَم يَكُن. وَهوَ لا يأتي مِنَ الماضيَ لِلماضيَ، بَل لِلآتيَ مِنَ الآتي. كَيفَ لا، وَمِنَ السُقوطِ المَعصِيَةُ. وهيَ في الآنِ والهُنا، تَكسِرُ، بِحَدِّ المَوتِ، الكَيانَ الإنسانِيَّ، وَتَقهَرُ، بِحَدِّ الهَلاكِ، السَماءَ. مُذذاكَ كانَت تَكريساً لِعُبودِيَّةِ الإنسانَ لِذاتِهِ، كأنَّما هوَ آتٍ مِن ذاتِهِ وَلِذاتِهِ وَلَيسَ مِن خالِقٍ وَلِلآخَرينَ.

ألبنانُ مأخوذٌ بِخَلاصِ الإنسان إلَيهِ؟ لبنانُ يُحِبُّ الإنسانَ، وَكَم حَزينٌ هوَ حِينَ يَتَطَلَّعُ الى ما الإِنسانُ فاعِلٌ. وَهوَ رَهيبٌ في واقِعِيَّةِ عِصمَتِهِ، فيما الإِنسانُ ذَليلٌ بِمَرارَتِهِ. حُبُّهُ وِسعُ الأَرضِ، والأَرضٌ وَجهُ عِصمَتِهِ. وَكَم يَرومُ الإهتِداءَ لِوَجهِهِ، إذ فيهِ تُستَغفَرُ الأرضُ التي في إنحِباسِ فِراغٍ. كُلُّ ما عَداهُ لا وَجهَ فيهِ، إذ كُلُّ ما عَداهُ مُقَيَّدٌ في ذاتِهِ. أمَّا هوَ، فَفي نَظَرِهِ يَنفَتِحُ رَحَمُ البَقاءِ.

رَحمُ الحُلُمِ

لبنانُ كالأَبَدِ، لا يَذهَبُ إلَّا لِنَفسِهِ، لِيُقيمَ الضالِّينَ في الخَيرِ. لا أحَدَ في جَهَنَّمَ: جَهَنَّمُ حَقيقَةٌ، هيَ مَكانُ سُلطانِ الإنسانِ في رَفضِ اللهِ وَطردِهِ، وَلَكن ما فيها إلَّا بَعضَ أوهامٍ أو حيرَةً مِن أسئِلَةٍ ما عَرِفَت إندِهاشَ الجَوابِ... إذِ اللهُ يَحتَرِمُ حُرِيَّةَ الإنسانِ وَلَو قادَت الى جُحودِهِ.

بالرَحمَةِ الَتي فيهِ، لبنانُ، عُبورٌ إلَيهِ. فيهِ يُصبِحُ وأَديمَ الأَرضِ واحِداً. حُلُمُ الأرضِ، هَمُّها، أن تَصيرَ الى الخالَقِ. وَهوَ، لبنانُ، الذي يَتَكَسَّرُ في نِهاياتِ أناشيدِهِ، خَلاصُها، في البَدءِ كَما في المُنتَهَى.

والرَحمَةُ تَحُلُّ لا عَلى رُكاماتٍ عَتيقَةٍ، بَل في القَلبِ فَيُصبِحَ نَقيَّاً كالأَعماقِ. وَفي نَجاوى العَقلِ دَعوَتُها، مَبعَثُ النَقاءِ. وَما الأقنِعَةُ التي يَستَسيغُ أناسٌ التَلَطِّيَ خَلفَها تَخَفيَّاً إلّا دَليلَ العُدولِ عَن حَملِ القُدسِيِّ لِلذاتِ وَلِلآخَرينَ.

الوَطَنُ الَذي لا يَكونُ رَحمَةً، والَذي في مَحبوبِيَّتِهِ لا يَكونُ فِداءً مِنَ الرَحمَةِ، لا شَيئَ يَكونُ.

الرَحمَةُ، دَمعَةٌ الأَبدالِ، صَغيرَةٌ، لَكِنَّها لإطفاءِ جَهَنَّمَ... وَتَجديدِ الإِنسانِ واللهِ.

هَذِهِ هِبَةُ لبنانَ-الدَمعَةِ!.