اخيراً، وبعد اعتراف غالبية من في الداخل اللبناني، بشكل رسمي وغير رسمي، بأن ​الانتخابات الرئاسية​ اللبنانية تحصل بقرار خارجي ووفق اخراج لبناني، كان لافتاً الموقف الاميركي الاخير الصادر عن وزارة الخارجيّة والذي دعا اللبنانيين، وتحديداً ​المجلس النيابي​، الى انتخاب رئيس جديد للجمهورية بسرعة قادر على "توحيد البلاد وإقرار الإصلاحات المطلوبة". في الشكل، لا غبار على هذا الموقف، وهو يصلح لكل زمان ومكان وكل بلد ينتظر انتخاب رئيس له، ولكن في المضمون فإنه يعبّر عن استخفاف كبير في التعاطي مع الازمة اللبنانية، وعن موقف اميركي لا يزال "غير مسهّل" على الاقل لانجاز هذا الاستحقاق في اسرع وقت ممكن.

لا يمكن لاحد ان يقول ان الاميركيين "غرباء عن اورشليم" ولا يعرفون خفايا السياسة اللبنانية والواقع اللبناني، ومن تولى التنسيق في جولات مفاوضات الترسيم الحدودي البحري مع كل ما يحمله من تفاصيل سياسية، لن يقف عاجزاً عن فهم حقيقة الوضع اللبناني والصيغة المعتمدة لعمل المؤسسات في هذا البلد. هل يحاول الاميركيون اقناع الجميع بأنهم لا يعلمون ان النظام في لبنان ليس نظاماً رئاسياً، ولا يمكن للرئيس ان يفعل ما يحلو له؟ الم يواكب الاميركيون رؤساء ما بعد انسحاب الجيش السوري من لبنان ليدركوا ان التركيبة اللبنانية لم تتغير وان العمل لا يزال على حاله لجهة الطائفية والمحسوبية ووضع المسؤولين العوائق والعثرات امام بعضهم البعض؟ هل غاب عن بال الاميركيين حقبة الرئيس السابق العماد ميشال عون الذي، اعتبر البعض انه استعمل صلاحيات الرئاسة بكاملها (منهم من انتقده على وضع العراقيل، ومنهم من اشاد بدوره في اعادة الهيبة الى الرئاسة)، لادراك ما تعرض له على الرغم من امتلاكه حضوراً شعبياً مهماً وكتلة نيابية "دسمة" في مجلس النواب، وعدداً غير قليل من الوزراء؟.

لا يمكن اتهام الاميركيين بالغباء او عدم الادراك، والتفسير الوحيد لكلامهم، هو انهم لا يزالون غير راضين عن الفرنسيين وتحركهم الناشط على الخط الرئاسي اللبناني. والحق يقال ان الدبلوماسيّة الفرنسية تتعاطى مع الملف اللبناني بطريقة اكثر واقعية، فهي فتحت خطوطاً مع ​حزب الله​ لعلمها انه لا يمكن تجاوزه في القرارات الرئيسية، كما ابقت على خطوطها مع الاطراف المسيحيين والسنّة كونها تعلم ان استعمال حق "الفيتو" من اي طائفة يعني تجميد كل المساعي والتحركات، من هنا كان الانفتاح على ​السعودية​ بشكل كبير ومحاولة استمالة كل الاطراف المسيحيّة عبر الترغيب، وبعيداً عن الترهيب (بعد ان كانت عصا العقوبات مرفوعة). يتقصّد الاميركيون ابقاء موقفهم غامضاً حتى جلاء الصورة الدولية، فهم لم يرفضوا اي مرشح ولم يدافعوا بشراسة عن ايّ شخصية، ولو انّهم يفضلون وصول قائد الجيش ​العماد جوزاف عون​ الى القصر الجمهوري، ما يعني انه لا مقاطعة ولا عقوبات ستفرض في حال وصول ايّ شخصية لبنانية الى الرئاسة، ولكن يجب الحصول على رضاهم في كل المساعي التي تبذل والا...

في ظل الخلاف الذي وصل الى حدود الحرب بين الرئيس السابق ميشال عون ورئيس مجلس النواب ​نبيه بري​، والذي كان صورة عن الخلافات المستترة والظاهرة للمسؤولين ورؤساء الاحزاب والتيارات السياسية في لبنان، كان الاتفاق على وجوب ان تكون ايّ تسوية "معمّدة" بالتفاهم على الخطوات التالية، وهذا ما كان يؤدّي الى تأخير ولادة الحكومات على سبيل المثال لا الحصر، ولم يكن الخلاف على المبدأ بل على التنفيذ، بحيث كانت الاسماء والاهداف مختلفة بين طرف وآخر. واليوم، لا يمكن التفاهم على انتخاب اي رئيس من دون الاتفاق على حزمة متكاملة لجهة الحكومة وخطواتها الاولى المرتقبة، والاولوية بالنسبة الى بعض الاصلاحات التي سيتمّ اعتمادها، ناهيك عن التعيينات في المناصب المهمّة وهو امر يختص بالحصص المفروزة.

الرئيس العتيد ليس في يد مجلس النواب، ولن يكون كذلك ولو طالت المسألة لاشهر واشهر، بل في يد التفاهمات والتسويات الدولية والاقليميّة التي ستسقط الاسم في يد النواب لاكمال المشهد، وكل كلام غير ذلك هو بمثابة ذرّ للرماد في العيون.