كَم مِن آثارٍ مخفيَّة تحتَ الأرض، لا تنتَمي إلى هذهِ الأخيرَة بل إلى السَماء. هذه هي حالُ جداريَّة المرأَة السامِريَّة التي تعودُ إلى منتصفِ القرنِ الرابِع، وقَد تمَّ اكتشافُها عام 1955 في Via Latina في إيطاليا.

حدثَ ذلك إِبّانَ تشييدِ مَبنًى سكنيٍّ، حيثُ كانت تختَفي الخرسانَة في الأرض. وعندما تمَّ التحقُّقُ مِن الأمر، وَجدَ العاملون أنفسَهم في دياميسٍ للراقدينَ شَبيهةٍ بدياميسِ روما، أمامَ جداريَّة مصُوِّر عليها رجلٌ وامرأةٌ وبِئىر.

حينئذٍ صَرخَ العاملون: "يا لِهذه المفاجأة، إنَّه ليس رَجلًا عاديًّا، إنّه الرّبُّ يسوعُ المسيح المُخلِّص"!.

المرأَةُ التي في الجِداريَّة كانت السامِرِيَّة (يوحنا 4) التي أتَت في وَسطِ النَهار تحتَ وطأةِ حَرارةِ الشَمس الحارِقَة لتَملأَ جَرَّتَها ماءً ينضب. كانت حينَذاك تَعيشُ في الخطيئة، وكانت تَهربُ من الناسِ وتَتجنَّب لُقياهُم حتّى لا تَسمَعَ تَعييرَهُم لها. وإذ بها تَلتقي بمُعطي الحياة، الذي أعطاها ماءَ الحياةِ الذي لا يَنضُب.

تركَت المرأةُ جرَّتها مع خطاياها عِند قدمَيِّ الرّب، ورَكضَت مُسرعَة إلى أهلِ مدينتها التي كانت تتحاشَهُم قبلًا، ودَعَتهم بفرحٍ لا يوصَف إلى أَن يأتوا هُم أيضًا ويَستَقوا من يسوعَ ماءَ الحياة.

كان هذا الحدَثُ في القرنِ الأوَّلِ الميلاديّ. وهذا ما حصلَ أيضًا بعد 1600 عامًا تقريبًا: ركض العمّالَ يدعون الناسَ ليُسرِعوا ويرتَووا مِن ماءِ الحياةِ نفسِه، ويَرموا ضُعفاتهم في بئرِ التَوبَة والحياةِ الجَديدَة.

إنَّ اختفاءَ الخرسانَة في أسفلِ الأرض، ما هو إلّا دعوة لنا لنَرمي خطايانا في أسافِل الجَحيمِ الذي فَجَّره يسوعُ بقيامتِه المَجيدة، ونبني أساساتِ حياتِنا على الصَخرةِ التي هي الربّ، الحاضرُ دَومًا وأَبدًا لكي يُقيمَنا من بئرِ أهوائِنا العميق، ويُصعدَنا معه خليقَة جديدَة.

كانت المرأةُ السامريَّةُ تَئِنُّ تحتَ ثِقَلِ معاصيها مُتَخَفِّيَة. كانت وَحيدَة لا تَجدُ مَن تُسامِرُهُ في ذهابِها وإيابها. فالخطيئةُ تُقَيّد الإنسانَ حتّى تَقضي عليه مَعزولًا في نِهايَة المَطاف. لقد كانت تلكَ المرأَةُ تَعيشُ في الظُلمَة، إِلّا أَنَّها عادَت مُحَرَّرة مِن قيودِ الشِّرير، وأضحَت إنسانةً فَرِحَةً ترفعُ وجهَها الذي أصبَح نَضِرًا، لأَنَّها قَد استنارَت بلقاءِ المُخلِّص. لذلكَ دُعِيَت منذُ تلكَ الساعَة بـِ "منيرة"، وعادت واستشهدت من أجل المسيح[1].

هكذا نحن، نَبقى أيقوناتٍ حَيَّة مهما لطَّخَتنا الخطيئة. ولكن ما أن نَفتحَ قلوبَنا للرب، حتّى يَمسحَ بنورِه الإلَهِيِّ كلَّ قباحَةٍ فينا، فَيعودَ النورُ إلى حياتِنا.

إنَّ الجدارِيَّةَ المُكتشفَة وغَيرَها مِن الجِداريَّات، تُؤَكِّدُ لنا أقدَمِيَة الفَن الكَنسيّ منذُ القرونِ الأُولى للمسيحيّة. حتّى أنّ هناكَ جداريّات أُخرى أَقدَم مِنها تُظهِرُ الفَنَّ الذي كان سائدًا في تلكَ الحَقبَة. حيث نرى الرّبَّ يسوعَ واقِفًا يَنظُرُ إلى السامِريَّة، يَمدُّ يَدَه نحوها ويُكلِّمها. وَكأنَّه بهذهِ الحَركة نسمعُه يقولُ لها: "مَنْ يَشْرَبُ مِنَ الْمَاءِ الَّذِي أُعْطِيهِ أَنَا فَلَنْ يَعْطَشَ إِلَى الأَبَدِ، بَلِ الْمَاءُ الَّذِي أُعْطِيهِ يَصِيرُ فِيهِ يَنْبُوعَ مَاءٍ يَنْبَعُ إِلَى حَيَاةٍ أَبَدِيَّةٍ".

يَبدو الربُّ في هذهِ الجداريَّةِ كَمُواطِنٍ رومانيٍّ في لِباسِه وصَندَلِه. شَعرهُ قَصيرٌ ومُجَعَّد، ووجهُه مستَدير، وملامحُه غربِيَّة دونَ لحيَة. في الجِهةِ المقابِلَة، تقفُ امرأَة، مُمسِكَة جَرَّتَها بِحَبْل. وتَبدو أيضًا كَرومانِيَّةٍ بملامحِ وجهِها وشَعرِها المكشوفِ والطويل بعضَ الشَيء. تَضَعُ أقراطًا في أذنَيها. وفي زَيِّها وحذائها تَبدو كامرأَةٍ رومانيَّة.

نرى أيضًا في هذه الجداريَّة البئرَ مَرسومًا في الوَسط على شكلِ جَرَّةٍ شِفَّتُها عَريضة. كما نرى السامريَّة تَنظرُ إلى الرّبِّ وإِلى جَرَّتِها في آنٍ. تَقفُ مُحتارةً في أَمرِها! فَما تَسمعه مِن يسوع يُدهشُها ويُنعشُها في الوقتِ نفسِه. كانت على وَشَكِ أن تَتركَ جَرَّتَها التي تَسحبُها من البئرِ بَعد أن مَلأتْها، وَتضَع عطَشَها الأرضيّ خَلفَها، وتَنطلِق حامِلَةً بشارةَ ماءِ الحياةِ التي ارتَوَت منه، وتَدعو الناسَ إلى البئرِ السماويِّ الذي ليس مِن صُنع إنسان.

المُلفِتُ في هذهِ الجداريَّة عندَ المرأةِ السامريَّة، هو يَدُها اليُمنى التي تُشيرُ بِها إلى يسوع، كأنَّها بذلكَ تقول: «لقد وَجدتُ المَسيح». هذا يأتي تَماشِيًا مع الحِوارِ الذي دارَ بينها وبين الرَّب، إذ قالَت له: «أَنَا أَعْلَمُ أَنَّ مَسِيَّا، الَّذِي يُقَالُ لَهُ الْمَسِيحُ، يَأْتِي. فَمَتَى جَاءَ ذَاكَ يُخْبِرُنَا بِكُلِّ شَيْءٍ". قَالَ لَهَا يَسُوعُ: «أَنَا الَّذِي أُكَلِّمُكِ هُوَ".

كلُّ ما تُظهرُه هذهِ الجداريَّة هوَ بُعدٌ إِلهيٌّ وخلاصِيّ. فَهذا هو المقصودُ من الجداريّاتِ المسيحيَّة والأيقوناتِ المقدَّسةِ في الكَنيسة.

إنَّ نوعَ الشُجَيراتِ في الجداريَّة يُشيرُ إلى طبيعةِ المَكانِ الجُغرافِيّ، إنَّه بالقربِ مِن مَدينةِ نابلُس، قَريَة سوخار سابِقًا التي تُبعِدُ مِئَةَ كيلومتر تقريبًا نَحو شَمالي أورَشَليم.

نلاحظُ أمرًا غيرَ واضحٍ في يَسارِ الربِّ وَقَدَمِهِ اليُسرى أَيضًا. فقد تَعدَّدت التفسيرات في هذا الشأن. ربَّما يكونُ هذا تَشويهٌ ناتِجٌ عن غَزَواتٍ تَعَرَّضت لها المَدينة، حَيثُ نُبِشَت القُبورُ وتَعرَّضَت المَدافِنُ للتَعدّي بهدف السرقة. وَلرُبَّما يكونُ أَيضًا تَصويرًا شَبيهًا بِالجَرَّة، وُضِعتْ في يِدِ يسوعَ دلالةً على أنَّه يُعطي ماءَ الحَياة، وقد تَعَرَّضت للتَشويه. مَهما يَكن تَبقى الجداريَّة شاهدةً على لاهوتٍ خلاصيٍّ لا شَبيهَ له ولا مَثيل.

جيّدٌ أن نَعرفَ بأنَّ هذه الجداريَّة ليست الوحيدة التي تُبرزُ هذا اللقاء، إِلّا أنَّها الأَكثرُ وُضوحًا. هناكَ لَوحَة[2] أُخرى مِن القَرنِ الثاني ميلاديّ بتفاصيلَ بِدائِيَّة جِدًّا في روما، نرى فيها الربَّ أيضًا دونَ لحية؛ والمرأةَ مكشوفَةَ الرأسِ وطولُ قامَتِها يُوازي طولَ قامَةِ الربِّ يسوع، وكِلاهُما حافي القَدَمَين؛ أَمّا البئرُ فهوَ عاديٌّ وصَغير.

إنَّ وُجودَ جداريَّة لِقاءِ الرّبِّ مع المرأةِ السامريَّة في دياميسِ الراقدين له مِعنى كبير. فالسامريَّةُ كانت مَيتَةً فَعاشَت بَعدَ أن التقَت بيسوع. فالماءُ الذي يُعطيهِ الربُّ هو ماءُ الحياةِ الأبديَّة.

كما تَحوَّلَت سراديبُ الموت مع هذهِ الجِداريَّة إلى مَنبعٍ للحياة. هَكذا نعبر نحن مع يسوعَ مِن موتِ الخطيئةِ إلى حياةِ النعمَة. صحيحٌ إنَّه مُجَرَّدُ لقاء، وَلكنَّه وِلادَةٌ وعبور.

إذا أَمعَنّا النظرَ جَيِّدًا في الجداريَّةِ التي يَطغو عليها اللَّونُ التُرابيُّ (Terra cotta)، مع وجودِ اللَّون البُنيّ الغامِق والأَخضَر، لَلاحَظنا غِيابًا للظِلال.

من الناحِيَة الفنيَّة الصِرْف، يُعتَبرُ هذا الفَنُّ بِدائِيٌّ قاسٍ ومسَطَّحٌ (plate et rude) . أمّا مِن الناحيةِ الروحيَّةِ، فَكأنَّنا بذلكَ نسمعُ أيّوبَ الصِدّيقَ يَقولُ عن الرّبِّ: «يَكْشِفُ الْعَمَائِقَ مِنَ الظَّلاَمِ، وَيُخْرِجُ ظِلَّ الْمَوْتِ إِلَى النُّورِ.» (أيّوب 22:12).

فمعَ قولِ أيّوبَ نقول: إنَّ الربَّ قَد أخرجَنا مِن عُمقِ المَوتِ إلى عُمقِ الحَياة، وما علَينا إِلّا أَن نَشربَ مِن ماءِ الربِّ المُحيي لنَتَجَدَّدَ بِهِ دائِمًا.

إلى الربِّ نطلُب.

[1]. يعيد لها في 26 شباط

[2]. "The catacomb of Praetextatus."