لم يعد الامر يتعلق بالرئيس الذي سيرسو في القصر الجمهوري في لبنان، بل بات الحدث متعلقاً بمن سيصنع هذا الرئيس، في ظلّ الخلاف الدولي الذي ينعكس صراعاً على الساحة الداخليّة. وبعد ان سلّم الجميع بأنّ التوافق هو الممرّ الوحيد للوصول الى النتيجة، اصبح السباق ينحصر على من سيكون "صانع الرئيس" خارجياً كما داخلياً.

على الصعيد الخارجي، وبعد ان كانت ​فرنسا​ متقدمة في هذا السباق، دخل الاميركيون على الخطّ وألغوا امتياز هذا التقدّم، فيما "تحمّست" ​السعودية​ من جديد ودخلت على الخطّ بعد ان كانت "تنأى" بنفسها عن الوضع اللبناني، فيما بقي الحضور الايراني على حاله، من دون ان ننسى المساعي القطرية لضمان عضوية دائمة على طاولة القرارات اللبنانية. وبالتالي، فإن التوصل الى قاسم مشترك بين هؤلاء اللاعبين يحتاج الى وقت ليس بقصير، ولا شك ان غياب ​سوريا​ عن الصورة الرئاسيّة له تأثيره لأنها كانت غالباً المفوّضة الدولية بالمسألة اللبنانية، وهو امر لم يعد وارداً بالمطلق بعد اضعاف الموقف السوري والسيطرة الروسية-الايرانية على القرار الخارجي فيها، على الرغم من عودتها الى الساحة الدبلوماسيّة واحتضان العرب لها، الا انّ التغييرات الجذرية واضحة للجميع ولم يعد من الممكن الرهان على القرار السوري الخارجي.

هذه اللمحة البسيطة عن الوضع اللبناني وفق الرؤية الخارجيّة، كافية لشرح الضياع والتشرذم السائد على الساحة الداخليّة، فإلى ان يتمّ الوصول الى نقطة التقاء في الخارج على الحلّ اللبناني، يسرح اللاعبون ​اللبنانيون​ ويمرحون ويضعون الشروط ويلعبون لعبة الوقت التي يتقنونها، وهم يدركون تماماً ان كل هذه الامور ستزول وتتلاشى فور التوصل الى تفاهم خارجي، لتبقى الامور مرهونة بعدها بنسب النفوذ المخصصة لكل جهة.

ولعل ابرز ما قيل عن الاستحقاق الرئاسي ويجدر التوقف عنده وتقديره، هو ان شخصية الرئيس لن تكون هي الحلّ، لان احداً لا يصدق ان الخلاف الخارجي هو على هذا الاسم او ذاك، فقد "اختلفت الاسماء والنتيجة واحدة" وهي ان الحل سيكون ضمن رزمة واحدة، واياً كان اسم الرئيس فلن يقدّم او يؤخر شيئاً، لانه عندها يكون ما كتب قد كتب، فيما الصراع الاساسي سيكون على النسبة التمثيليّة للاطراف والاحزاب والتيارات السياسية في الهيكل اللبناني. فهل من يصدّق ان اتفاق معراب هو الذي اتى بالرئيس السابق العماد ميشال عون الى الرئاسة؟ وهل من سيصدق ان اتفاق ​التيار الوطني الحر​ و​القوات اللبنانية​ اليوم (في حال حصوله) سيكون المعبر الوحيد لانتخاب رئيس الجمهورية؟ من المؤكّد انّ ايّ رئيس جديد لن يحظى بالشعبية والحضور الوازن على الساحتين النيابية والوزارية كما كان الحال مع عون، ولكن الاتفاق بين المكونات المسيحيّة الرئيسية اساسي طبعاً ولكن في سبيل ضرورات الاخراج فقط، اذ لا يجوز صورياً ومعنوياً، تجاوز شريحة اساسية في استحقاق يتعلق بها بالدرجة الاولى (كما الحال في انتخاب رئيس مجلس نواب وتكليف شخصية لرئاسة الحكومة). ومن الثابت ايضاً انه لا يمكن تجاوز ​الثنائي الشيعي​ في اي قرار يتعلق بلبنان، خصوصاً بعد الانفتاح العربي وشبه الغربي على ايران.

ازاء كل هذه المعطيات، يتبيّن ان ليس هناك بالفعل من "صانع رئيس" في لبنان لان الامر لا يتعلق بطرف او بشخص واحد، فالصانعون كثر، ولا يمكن احتكار هذا الامر، ليس لانه مستحيل لبنانياً فقط، بل لانه غير قابل للتنفيذ خارجياً، وبالتالي سيكون الرئيس المقبل مديناً لكل الدول الخارجية ولكل الاطراف اللبنانية التي ستتسابق على تبنيه، اقله في الفترة الاولى من ولايته، قبل ان تتخلى عنه تدريجياً مع اقترابه من السنيتن الاخيرتين لعهده.

انها لعبة الرئاسة في لبنان، وهي بالتأكيد اكثر تعقيداً ومكراً من لعبة العروش.