لا! لَيسَ تاريخُ لبنانَ المُمتَدُّ مِنَ الألفِ الثامِنِ قَبلَ الميلادِ الى القَرنِ السابِعِ بَعدَهُ، خَيالاً مُتَيَّماً بالإدِّعاءِ.

يَومَها كانَ لبنانُ-فينيقيا، مِن جَبَلِ الكَرمَلِ الى خَليجَ أسوس وإقليمِ أرادوس (أرواد) وَحَوضِ نَهرِ إليتر (النَهرِ الكَبيرِ)، وَحُدودُهُ صَحارى الشَرقِ وَبَحرُ الغَربِ، فيما بِلادُ الإغريقِ مُحاطَةٌ بالبِحارِ: أيجه وَمرمَرَة والأسوَد والمُتَوَسِّط.

في تِلكَ الهَدأةِ الجُغرافِيَّةِ، سَيولَدُ مِن لبنانَ الى الإغريقِ، وَمِنهُم الى العالَمِ، إنقاذُ الإنسانِ في الإنسانِ، بأولَوِيَّةِ إسطورَةٍ ما كانَت إلَّا... بإوَلِيَّةِ إبحارٍ.

وَما الأسطورَةُ؟ هيَ نُموٌّ لِلمَعرِفَةِ في إرتِحالٍ وجودِيٍّ يُصاغُ شِعراً لإستِجلاءِ غَوامِضَ، لأنَّ الشِعرَ يُطابِقُ بِغِنائِيَّتِهِ إزدِحامَ التَكوينِ. لَكِنَّها مِن عوالِمَ الصحارى الى بِلادِ الإغريقِ وأبعَدَ، أُغرِقَت في التراجيديا الإلَهِيَّةِ: فآلِهَةُ أساطيرِهِمِ مُتَقاتِلونَ، مُتَنابِذونَ. بالطُغيانِ يَحكُمونَ. وَفي جَدَلِيَّةِ الأسفَلِ هَذِهِ، حَماقاتٌ لا تَبغي إلَّا الإخضاعَ أو الإقتِصاصَ مِن رافِضِ الإستِعبادِ، حَدَّ التَهديدِ بالقَضاءِ عَلى الجِنسِ البَشَريِّ.

لَكِنَّ لبنانَ هُنا.

مِنهُ وَبِهِ، سَتَخرُجُ أسطورَةٌ توَشِّيَ التاريخَ بالبَهاءِ المُقَرِّبِ مِنَ المُقَدَّسِ: ها زيوس الإغريقيِّ، إلَهُ الآلِهَةِ وَسَيِّدُ مَصائِرَ البَشَرِ، وَعَرشُهُ الأولَمبُ، الجَبَلُ المُقَدَّسُ، سَيَختارُ أوروبا، أميرَةُ صورَ وإبنَةُ مَلِكِها، سَيِّدَةُ العَرشِ. هوَ المُتَيَّمُ بِها، سَيَتَنَكَّرُ بِشَكلِ ثَورٍ يَخطُفُها عَلى ظَهرِهِ فيما كانَت عَلى الشاطِىءِ، لِيَتَزَوَّجَها، مُطلِقاً إسمَها عَلى كُلِّ الأرضِ الَتي فيها بِلادَهُ حَتِّى أعماقِ نِهايَتِها. وَلِأجلِها سَيَترُكُ زوجاتَهُ وَعَشيقاتَهُ، وَيَرتَدُّ مِن طاغِيَةٍ الى إلَهِ السَلامِ، مُستَغفِراً مِنها عَن ذُنوبِهِ:

"أنتِ عَلَّمتِني كَيفَ...

يَكونُ الرَسمُ بالكَلِماتِ.

فَأيقَنتُ أنَّ لَوحاتِ الشِعرِ تَحتاجُ الى مُلهِمَةٍ تُروي المَلِكاتِ...

أيَّتُها القادِمَةُ مِن جِبالِ الياسَمينَ

أُنثُري بَعضاً مِن عِطرِكِ رَذاذاً عَلى عُيونٍ أرهَقَها الحَنينُ..."

وَسَيأمُرُ المَلِكُ أجينورُ إبنَهُ الأميرَ قُدموسُ بالذَهابِ لِلبَحثِ عَن شَقيقَتِهِ. وَبَعدَ مَشاقٍ، وَفي سُهولِ بانوبي قُربَ يُنبوعٍ، سَيَغمِسُ رِجالُ قُدموسَ جِرارَهُمُ، فَيَهجِمُ عَلَيهِمِ تِنِّينُ إلَهِ الحَربِ. وَسَيُقاتِلُهُ قُدموسُ وَيَصرَعُهُ. وَسَتَطلُبُ مِنهُ إلَهَةُ الشِعرِ والطِبِّ أن يَزرَعَ أنيابَهُ في الأرضِ، فَخَرَجَ مِنها مُسَلَّحونَ غَدوا أتباعَهُ، فَبَنى في المَكانِ مَدينَةَ طيبا وَحَكَمَها بالحِكمَةِ.

وإذ فَقَدَ الأمَلَ مِن لُقيا شَقيقَتِهِ، سَيَحمِلُ الى الإغريقِ وآلِهَتِهِمِ الأبجَدِيَّةَ الفينيقِيَّةَ-الُلبنانِيَّةَ الَتي مُعجِزَتُها-الأُعجوبَةُ أنَّها نَقَلَتِ الإدراكَ مِنَ العَينِ الى العَقلِ، مِن تَقليدِ البائِدِ الى خَلقِ الأبَدِ: مِنَ التَصارُعِ الى الخَلاصِ.

مَعَها سَيَرتَقي لبنانُ-الإبحارُ الى تاريخٍ بَدَأت مَعَهُ عَلاقَةُ الشَرقِ بالغَربِ، وَقَد نَقَلَ قُدموسُ المَعرِفَةَ مِنَ الوَعي الى بِناءِ الأوعى: طُقوسُ الحِكمَةِ، فَلسَفَةً وأدَباً وَفُنوناً وَعُلوماً. هيَ الأُعجوبَةُ-المُعجِزَةُ الَتي سَتَبتَدِعُ الثَورَةَ العَقلِيَّةَ الَتي سَتوجِدُ زَينونَ وَبيتاغورُسَ وَفيلونَ وَبورفيروسَ وَأوكليدُسَ وَتاليسَ وَموخوسَ... الُلبنانِيِّينَ الَذين سَتَتَباهى بِهِمِ الحَضارَةُ الإنسانِيَّةُ وَقَد كانوا مَنابِعَ رَوافِدِها.

رَسولِيَّةٌ أُسطورِيَّةٌ

أُسطورَةُ إبحارِ العَقلِ مِن لبنانَ الى الحَضارَةِ تَتَرَّزَنُ بِما في العَقلِ مِن قِيَمٍ بِوَجهِ اللاقِيَمِ، رافِعَةً الإلَهِيَّ والإنسانِيَّ الى ما فَوقَ الإلهَامِ: الى حَيثُ العَدالِيَّةُ الكُبرى إتِّحادُ شَهادَةٍ. لِأنَّ العَقلَ في ما هوَ عَدالَةٌ، هوَ روحٌ مُتُدَفِّقَةٌ، مُتَدافِعَةٌ... لِلخَيرِ.

أهيَ مُغامَرَةٌ روحِيَّةٌ بَينَ الغُربَةِ والتَشَتُّتِ والفِراقِ، ثُنائِيَّةُ اوروبا (غاروبا) حَيثُ تَغرُبُ الشَمسُ، وَقُدموسُ (القادِمَ)؟ بَل تَوَسُّلُ الكَلِمَةِ لِتَتَآلَفَ بِها المَسافَةُ بَينَ ما يَستَحيلُ أن يَكونَ وَما لا يُمكِنُ إلَّا أن يَكونَ، بِرَسولِيَّةٍ غَلَبَت تَواريخَ الآخَرينَ حَيثُ الألَمُ يَتَألَّمُ إشفاقَاً عَلى ضَحاياها.