الإعتِرافُ بِلبنانَ عِثارٌ، بَل ضَربٌ مِنَ الجٌنونِ والإدِّعاءِ مَعاً، إذ كَيفَ لِوَطَنٍ مَحكومٍ عَلَيهِ بالمَوتِ، مَعَ تَقادُمِ الأزمِنَةِ، أن يَكونَ الحاسِمَ في التاريخِ؟ كَيفَ يَكونُ وَحدَهُ مَعقولِيَّةَ الوجودِ؟ كَيفَ هوَ الإتِّحادُ بَينَ المِعنى والبُلوغِ؟.

هوَ الإيمانُ والتاريخُ؟ مُجازَفَةُ الحَقيقَةِ وَنَهجُ الكَينونَةِ؟.

هوَ عَكسُ التَيَّارِ، حينَ التَيَّارُ الجارِفُ هوَ الصُدفَوِيَّةُ في الظَواهِرَ.

أَقُلتُ لِلإعثارِ بِهِ تاريخٌ؟ فَلأعُد لِذاكَ التاريخِ: الى الحَمَلاتِ الصَليبِيَّةِ وَهيَ غَربِيَّةٌ-كاثوليكِيَّةٌ، بِدَعوَةٍ مَشرِقِيَّةٍ-أورثوذُكسِيَّةٍ، لِتِحريرِ أورشَليمَ، مَدينَةِ السَلامِ الفينيقِيَّةِ-اللبنانِيَّةِ، التي تَتَصارَعُ فيها وَعَلَيها، بإنزِلاقاتِ السياسَةِ الى الدينِ والدينِ الى الفُتوحاتِ، والفُتوحاتِ الى دَوافِعَ الأعراقِ وَتناوبِ المَصالِحَ، في إنفِصامٍ بَينَ الروحِ والغُربَةِ: اليَهودِيَّةُ والمَسيحِيَّةُ والإسلامُ. هَؤلاءُ شَهَروا السَيفَ ديناً، وأولَئِكَ الصَليبَ سَيفاً، والسابِقونَ الزَمانَ سُيوفاً. وَجميعُهُمُ إختَلَفوا في ما بَينَهُمُ على الأولَوِيَّةِ والسُلطَةِ، وَبَينَ بَعضِهِمِ على التَحالُفاتِ، فأبرَموا المُعاهَداتِ (1098 مَعَ الفاطِمِيِّينَ، 1192 بَينَ ريكاردوسَ قَلبَ الأسَدِ وَصَلاحَ الدينِ الأيُّوبي، 1229 بَينَ سُلطانِ مِصرَ وأُمبراطورِ جِرمانيا، 1243 مَعَ حاكِمِ دِمَشقَ، 1250 مَعَ حاكِمِ مِصرَ) وَنَقَضوها.

إستَقَرَّ الصَليبِيُّونَ في المَشرِقِ قَرنَينِ (1098-1291)، مٌعاصِرينَ لِلمُستَقِرِّينِ فيهِ قَبلَهُمُ: الخِلافَةُ العَبَّاسِيَّةُ السُنِيَّةُ (1098-1262)، والفاطِمِيَّةُ الشيعِيَّةُ (1098-1171) والسَلاجِقَةُ (1104-1154)، والزِنكيِّونَ (1129-1176) والأيَّوبيُّونَ (1174-1260) والمَغولُ (1196-1265) والمَماليكُ (1250-1404). وكانَت آخِر مَعارِكِهِم مَعهَمُ في بَيروتَ (1291).

حاكِمُ الكَرَكِ-الأُردُنُ ناصِرُ داوودُ الأيُّوبي حاصَرَ أورشَليمَ-القُدسَ وإستَولى عَلَيها، بَعدَ إنتِهاءِ سَريانِ مُعاهَدَةِ يافا (1239). أستَرَدَّها الصَليِبيُّونَ بالتَعاونِ مَعَ حاكِمِ دِمَشقَ إسماعيل الأيُّوبي. فَتَحالَفَ حاكِما العِراقِ وَمِصرَ مَعَ الخَوارِزميِّينَ وإجتاحوا أورشَليمَ-القُدسَ (1243)، وإرتُكِبَتِ المَجازِرُ بِحَقِّ المَسيحييِّنَ، إمتِداداً لِلبنانَ الَذي شَهِدَ نُزوحاً لِلجِبالِ... وإذ تَوَلَّى لويس التاسِعُ (القِدِّيسُ) عَرشَ فَرَنسا، أتى لِلمَشرِقِ لإعادَةِ الهَدَفَ الدينيَّ لِلحَمَلاتِ الصَليبيَّةِ. وَقَعَ في أسرِ بيبرس المَملوكيَّ، في المَنصورَةِ (1250). وَلَمَّا أُفرِجَ عَنهُ، صَلَّى في أورشَليمَ-القُدسِ، وَسَكَنَ في صَيدا (1254-1250)، فإتَّصَلَ بالأيُّوبيِّينِ والإسماعيليِّينِ والعَلَويِّينِ والمَتاوِلَةِ وَمَغولِ هولاكو والحشَّاشينِ...، قَبلَ أن يَقودَ الحَملَةَ الثامِنَةَ (1270) التي قَضى الطاعونُ عَلَيها.

مَعَ التَمَزُّقِ الصَليبيِّ (1283-...)، إجتاحَ المَملوكيُّ قلاوونُ، غَنيمُ إنقِلاباتَ القُصورِ المَملوكِيَّةِ، الشَمالَ اللبنانيِّ، ساحِلاً وَجَبَلاً، حتَّى جُبيلَ، مُنتَقِماً مِنَ المَوارِنَةِ الَذينَ تَصَدُّوا لأولى حَمَلاتِ المَماليكَ بِقيادَةِ بيبرس. وَفي الدَمارِ على الدَمارِ، وَبالعُنفِ على العُنفِ، والنارِ بالنارِ، أحكَمَ المَماليكُ سَيطَرَتَهُم على لبنانَ، بَعدَ إنهيارِ الصَليبيِّينَ، في أواخِرَ القَرنِ الثالِثَ عَشَرَ (1292)، فَسَفَكوا فيهِ دِماءَ المَسيحيِّينَ، والجَماعاتِ الإسلامِيَّةِ غَيرِ السُنِيَّةِ كالدُروزِ والمَتاوِلَةِ والشيعَةِ والعَلَويِّينِ...

مِن اللبنانَ الى الحَقيقَةِ

عِثارُ بُلوغِ الحَقيقَةِ، الذَهابُ مِن فِكرَةٍ، مُستَقِرَّةٍ، الى الواقِعِ. وَهوَ هُروبٌ مُتَعَرِّجٌ.

مِنَ الآلامِ، أدرَكَ موارِنَةُ لبنانَ أوَّلاً أنَّ الحَقيقَةَ-الأصلَ تُبلَغُ مِنَ الواقِعِ الى الذُرى. مُذ ذاكَ، تَكَوكَبوا كَنيسَةً، وَتَجَذَّروا بِلبنانَ-الأرضِ، وإنطَلَقوا مِنهُما الى حِوارٍ مَعَ الآخَرينَ لِبِناءِ كَيانٍ على قاعِدَةِ لا المَوتَ ولا التَخَلِّيَ، لا الإيمانَ المُقَسِّمَ وَلا إصطِناعَ أحلافٍ، بَل قَناعَةُ الحُرِيَّةِ بالإخاءِ، لِلشَرقِ وَلِلغَربِ...

وَنَسألُ بَعدُ، لِمَ يوحنَّا-بولُسُ الثاني، العَظيمُ، وَصَفَ لبنانَ بـ"أورشَليمَ الجَديدَةِ"؟.

هوَ الحَقيقَةُ-الأًصلُ الأخَّاذَةُ صَوبَ أعلى، حينَ كُلُّ التاريخِ دِماءٌ ظَمِئَةٌ الى تَوقٍ. فَكَفى إعادِةَ بِناءِ التَواريخِ عَبرَ تَصَوُّراتٍ دَخيلَةٍ، تُعَدُّ بَعدَ فَواتِ الأوانِ.

لبنانُ-الإيمانُ، لا يَبتَغي إلَّا أن يُفهِمَ مَن كانَ لبنانُ وَما كانَهُ.

فَليَكُن لبنانُ إجهارُنا... لِمُستَقبَلِ التاريخِ!.