المُتَعالونَ على لبنانَ كُثُرٌ. أخطَرُهُمُ، المُتَسَربِلونَ بإدِّعاءاتِ تَحَنانٍ: هَذِهِ أُمٌّ، وَهَؤلاءِ أشِقَّاءَ، وأولَئِكَ أَصدِقاءَ...

والذَاكِرَةُ، وَإن إقفَلوا عَلَيها في كُهوفِ العَقلِ، لا تُنصِفُ المُتَطاوِلينَ. قُوَّتُها في ثَباتِها، فيما هُمُ الى غَياهِبَ الزَمَنِ المَردودِ مَهما بَغوا وَتَباهوا في غِيِّ التَدنيسِ. كَيفَ لا، وَمُنذُ المَواضِيَ الى الحاضِرِ، وَهُمُ في تَحالُفِ تَحاسُدٍ، مَهما تَبَدَّلَت أَسماؤهُم وَتَنَوَّعَ تَباغُضُهُم. وَيأتيكَ مِنهُمُ الَيومَ مَن يَتباهى... وَهو بالكادِ يَقِفُ على رُقعَةٍ بَقيَت لَهُ مِن مَوطِنِهِ الَذي وَهَبَهُ لِلُقَطاءَ بأقَّلَ مِن ثَلاثينَ مِنَ الفِضَّةِ، أنَّ لَولاهُ لَما كانَ لبنانُ.

أَلَم يَنهَبوا فِكرَ لبنانَ وَيَنسِبوهِ إلَيهِمِ زوراً، وَهُمُ في الزورِ مُجِلِّينَ، مِنَ الكِتابَةِ الهيروغليفِيَّةِ الى آخِرِ نوطَةٍ موسيقِيَّةٍ مُتَفَرِّدَةٍ؟ أَلَم يَحذِفوا هُوِيَّةَ كِبارِهِ لِيَلصِقوا بِهِمِ أيَّ أُخرى إستِجداءً؟ أَلَم يَمحوا أبعادَهُ الحَضارِيَّةَ وَقِيَمَهُ الروحِيَّةَ لِيُشَوِّهوهُ بِنُعوتِ المُتاجَرَةِ عُنوَةً، وَقَد أقصوا عَنهُ الحُريَّاتِ التي نادى بِها وَبَذلَ دَمَهُ لِتَكريسِها، وَنَسَبوها إلَيهِمِ؟ أَلَم يَستَشرِسوا في تَصويرِه طارِىءَ المُصادَفاتِ ولَقيطَ الأُمَمِ؟.

إِقرأوا التَوراةَ. كوسموغونِيَّاتَها، وأشعارَها، وَحِكَمَها، وَنَشيدَ أنشادِها... مِنهُ. وَمِنهُ إعتُلِنَ المَسيحُ المُنتَظَرُ، فآمَن بِهِ مَن يؤمِنُ.

تَعَرَّفوا على حُكَماءَ أثينا وَفَلاسِفَتِها وَتَيَّاراتِها الثَقافو-قِيَمِيَّةً... أعظَمُها مِنهُ. وَما نِسبَتُهُم إلَيها إلَّا إستِغفاراً لِإحراقِ إسكَندَرِها -وَهوَ لَيسَ مِنها أصلاً- صورَ حاضِرَةَ المَدائِنَ، وَتَدمير مُكَوِّناتَها لِدَفنِ أثَرِها على العوالِمَ.

إستَعيدوا مَوروثاتَ الإمبراطورِيَّةِ الرومانِيَّةِ، وَوَرَثَتِها، القِيَمو-إنسانِيَّةَ... هيَ مِنهُ. وَما عَلَّمَهُ لبنانُ مِن شَواطِئِهِ الى قَرطاجَةَ وَليدَتَهُ، أبادَتهُ روما وَنَسبَت ما إستَطابَت مِنهُ إلَيها لِتَستَعبِدَ بالرِعدَةِ العالَمَ...

إستَقرِئوا فُتوحاتِ الإستِعرابِ... هي أجهَزَت على ما هوَ مِنهُ، وَطَمَسَتهُ مَعالِماً وَرِسالَةً، لِمَصلَحَةِ إنصِهارِ العَرَبِيَّةِ بِدَعوَةٍ دينِيَّةٍ... وإستِبدالِ شَعبٍ بِشَعبٍ، وإستِجلابِ طَوارِىءَ لإِسكانِهِم فيهِ مُنذُ مُعاوِيَةَ وَما قَبلَهُ عَبدالله بِن قَيسَ، أميرَ السَواحِلَ اللبنانِيَّةِ، المُعَيَّنِ تابِعاً لَهُ مِن عُمَر بنُ الخَطَّابِ.

أفي ذا الطُغيانِ يُمحى لبنانُ؟.

لا! لَيسَت التَواريخُ صُنعَهُم. همُ المُنتَصِرونَ أبداً، ولبنانُ المَهزومُ بِهِم أبَداً... على ما يوهِمونَ.

مُعجِزَةُ الذاكِرَةِ

الذاكِرَةُ تَأصُّلٌ، وَتَأصُّلُها الُلبنانِيُّ مُعجِزَةٌ. إذ لا أسرارَ فيها بَل أنسَنَةُ الخَليقَةِ... والخَلائِقَ.

أَبِسَبَبِ تِلكَ القُدرَةِ، كانَ التَواطؤُ المُستَمِرُّ لِلقَضاءِ على لبنانَ-الذاكِرَةِ؟.

لأنَّ لبنانَ كَيانٌ، فَهوَ كُلِيَّةٌ. وَكُلِيَّتُهُ تُناقِضُ كُلَّ المُصطَنَعاتِ الَتي تآلَفَت ضِدَّهُ. اليَومَ، يُدرَكُ لِما التآمُرُ عَلَيهِ، بَينَما المُفتَرَضُ التَشَبُّهُ بِهِ. هوَ تألَّمَ بِسَبَبِ الحَقيقَةِ، وَمِن أجلِ العَدالَةِ، وَبِهَدَفِ الإنسانِيَّةِ. وَما القَضاءُ عَلَيهِ إلَّا قَضاءً عَلى مَن يَبغي إزالَتَهُ. هوَ لَيس مَحضَ مِثالِيَّاتٍ، بَلِ الحَسمَ الأكثَرَ كَثافَةً في التَبادُعِ بالعَقلانِيَّةِ، أيّ بِحَقيقَةِ الإنسانِ... واللهِ مَعاً.

آهِ! اللهُ!

أجَل. بِلُبنانَ، وَحدِهِ، تَكونُ رُؤيَتُهُ وَجهاً لِوَجهٍ. في هَذا التَبادُلُ-الذُروَةُ، السِرُّ النِهائيُّ لِلإنسانِ. وَمِن دونِ هَذِهِ السيادَةِ، المُتَطاوِلونَ-المُتَعالونَ يُنهونَ ذَواتَهُم، قَبلَ ضَحِيَّتِهِم.

أَأَقولُ أنَّ الكَلِمَةَ الأخيرَةَ في الخَليقَةِ، كَما في الخَلقِ كانَت مِنَ اللهِ، كَذَلِكَ تَكونُ في الخَلائِقَ، لِلبنانَ... وَمِنهُ؟ لبنانُ-"الكائِنُ-هُنا" Dasein، يُذَهِّنُ سِرَّ الوجودِ، إذ هوَ الذاكِرَةُ الباعِثةِ على التَعارُفِ. وَمَن هُمُ دونَ جُذورٍ، في السَماءِ كَذَلِكَ على الأرضِ، لَيسَ لَهُمُ إلَّا التَنافيَ، بِسَبَبِ أدلَجَتِهِمِ لِضَياعِ ذَواتِهِمِ وَلِتَهَرُّبِهِمِ مِن الحَقيقَةِ.

ألبنانُ-الذاكِرَةُ، "هُنا" وَ"الآنَ"، مَحضُ حَياةٍ؟ بَل أكثَرَ، لبنانُ-البِكرُ حالِيَّةُ الوجودِ الديناميكِيَّةِ، بِكَمالِيَّةِ العَلاقَةِ-التَداخُلَ بَينَ قِطبَينِ: "مِن" وَ"إلى". مِن "مَوعودٍ" الى... "الورِاثَ".